كأن التصريح الشهير لذلك المسؤول الإيراني الذي تبجح بسيطرة طهران على أربع عواصم عربية لم يعد مستفزاً، حتى تباهى أحد قادة «الحرس الثوري» بتشكيل جيوش تابعة لثورته في دول عربية. العواصم العربية التي تحدثت إيران عن السيطرة عليها هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. ونائب قائد «الحرس الثوري» قال في تصريحات رسمية أن حجم الجيوش (الشعبية!) التي تشكلت في العراق وسورية واليمن والمرتبطة بالثورة الإيرانية يبلغ حجمها أضعاف حجم «حزب الله» في لبنان. يتوج هذا التصريح الذي صدر في نهاية العام الماضي سنة إيرانية حافلة بتصدير الثورة والعبث في سيادات دول عربية وتدمير نسيجها الاجتماعي ووضعها على سكة حروب طائفية لا يعرف أحد منتهاها. حلم «تصدير الثورة» الذي أطلقه الخميني في ثورته ظل غاية تحوم في منطقة أولويات السياسة الإيرانية التوسعية، أحياناً يخفت، وأحياناً أخرى يستقوي ويستعر. ثورة الخميني التي جذبت قلوب ملايين العرب وتأييدهم، كونها ثورة المظلومين ضد طغيان الشاه وتبعيته للولايات المتحدة، تحولت مع السنين لتصبح طاغية وتقف مع الطغاة ضد شعوبهم، ولتنحدر إلى مجرد نزعة طائفية دمرت واشتغلت على إيقاد أحقاد الماضي في المنطقة وتفتيتها أكثر من أي شيء آخر.
على رغم انكشاف طائفية الثورة الإيرانية في الشكل والجوهر، فإن السنة التي انقضت يمكن اعتبارها سنة ذهبية لنهج «تصدير الثورة». ليست التصريحات المنفلتة من عقالها هي الدليل الأبرز على ذلك، بل الوقائع التي تتطور على الأرض مؤكدة ما تحمله التصريحات ومتجاوزة له أيضاً. لو كان الوضع العربي في الحد الأدنى من العافية السياسية لاستدعت تلك التصريحات انعقاد قمة عربية عاجلة لاتخاذ موقف قوي وجماعي ضد تدخلات طهران في شؤون بلدان عربية عدة تؤكدها تصريحات الرسميين الإيرانيين ولا تخجل منها.
الوجه الآخر للسنة الذهبية لإيران تمثل في التمديد المتكرر للمفاوضات الإيرانية الغربية (5 + 1) حول الملف النووي والذي يعد بالتأكيد نجاحاً إيرانيا واضحاً، فهذه المفاوضات ونتائجها المتوقعة تستلزم تأملاً إضافياً. إنها في العمق والجوهر مفاوضات إيرانية مع الولايات المتحدة (أي 5 + 1)، وتبدو بقية الدول الغربية تابعة لما تقرره واشنطن. لكن، كيف يمكن أن توافق واشنطن مرة تلو الأخرى على تمديد المفاوضات مع الدولة «المارقة»، بينما هي تعلم والجميع يعلم أن طهران تشتري الوقت لأهدافها الخاصة. ليس ثمة إجابة مباشرة أو سهلة على هذا السؤال، كما أنه ليس ثمة أي سذاجة عند الطرف الأميركي، ولا طبعاً عند الطرف الإيراني. ما يتبلور على نار هادئة هو «الصفقة الكبرى» بين الطرفين وهي الصفقة التي احتاجت على ما يبدو إلى زمن أطول كي تنضج مكوناتها من ناحية، كما أنها تحتاج إلى وقت إضافي أيضاً في الإقليم كي تنتهي بعض التطورات أو تأخذ الاتجاه الذي يصب مباشرة في مصلحة تلك الصفقة ويتوافق معها. لا مكان للصدف هنا ولا للتساذج أو التخادع، بل نحن في قلب عملية «انتظار» الوصول إلى تلك الصفقة.
عملياً، سوف تحدد الشهور المقبلة (مع نتيجة المفاوضات ومضمون «الصفقة») شكل الشرق الأوسط الجديد وموقع إيران والعرب فيه، ويصير على الجميع الانتظار حتى يتم الاتفاق التفصيلي على جوانب الصفقة والتحالف الجديد الذي ينشأ في الإقليم. زمنياً، نكون على أعتاب عام 2016، وليس من المستبعد أن يكون ذهبياً أيضاً بالنسبة إلى إيران إذا استمرت الأمور في الاتجاه الحالي. ليس مهماً الجدل في ما إذا كانت إيران تنتزع موقعاً ودوراً إقليمياً، رغم أنف الولايات المتحدة التي تبدو كأنها ملّت من المنطقة، ولم تعد لديها الطاقة الكافية ولا الرغبة في متابعة كل ملف من الملفات، أو أن ذلك يتم وفق الرغبة الأميركية وتبعاً لتحولات بوصلة سياساتها ومصالحها في المنطقة (وإعادة اتجاهها نحو آسيا). المهم، بالنسبة للمنطقة العربية ككتلة جماعية، وللدول العربية منفردة، خصوصاً دول الخليج، هو نتائج تلك الصفقة وانعكاساتها على هذه الدول.
السؤال الكبير والحقيقي تبعاً لذلك هو انعكاسات ما سيأتي على العرب، بخاصة إذا تعزز النفوذ الإيراني وثبت مواقعه في البلدان التي تعزز فيها في العقد الأخير من السنين، وتحديداً في العراق وسورية ولبنان واليمن. والسؤال الثاني المرتبط بذلك يتعلق بإمكان أو عدم إمكان القيام بأي فعل عربي جماعي أو منفرد لتحديد انعكاسات الصفقة وتخفيض تأثيراتها السلبية. إيران الخامنئية قد ترث إيران الشاهنشاهية ودورها كشرطي للخليج، وهذه المرة مدفوعة بجموح إضافي مرتبط بالشيعية السياسية التي تشكل الآن المسوغ الموضوعي (المُفتعل) للمشروع الإيراني برمته، وبها تطرح إيران نفسها حاميةً للشيعة في المنطقة والعالم.
لا يعني ما سبق إعلان إيران عدوة للعرب، فهذا غير مطلوب وغير عملي ومدمر للطرفين وللمنطقة عموماً. لكنه يعني ضرورة أن يتحرك العرب، خصوصاً دول الخليج ومصر في اتجاه موازنة النفوذ الإيراني وتحديده وفق المصالح المشتركة، من دون تحكم أي طرف من الأطراف بالطرف الآخر. وهذا يتطلب صوغ مقاربة عربية متماسكة نحو إيران تقوم على الندية واحترام السيادات ورفض التدخلات العابرة للحدود أياً كان شكلها ومسوغها، بخاصة المسوغ الديني. وهذه المقاربة ربما تبدأ من فهم تعريف إيران لنفسها وفهم تناقضات ذلك التعريف، أو التعريفات، ثم تعزيز التعريف الذي يسهل من خلاله التعامل معها. وهنا يمكن القول إن إيران الحالية تتصارع فيها وداخلها ثلاث «إيرانات»: «إيران الأولى» هي إيران الوريثة للإرث الفارسي الإمبرطوري المشحون بالتاريخ، والذي يدفع البلد نحو مشروع توسعي إقليمي دائم، ويرى في إيران تلك الدولة التي يجب أن تمتلك مشروعاً إمبرطورياً متفوقاً على جوارها، وهذه الـ «إيران» عابرة للحدود بالتعريف. و «إيران الثانية» هي إيران التشيع السياسي التي أطلقها الخميني وتعتبر نفسها حامية للشيعة في العالم وليس فقط في المنطقة، وهي أيضاً إيران العابرة للحدود ولا تحترم سيادات الدول. و «إيران» الثالثة هي إيران الدولة ـ الأمة أي (nation state)، والتي تلتزم بالقانون الدولي وتحترم سيادات الدول ولا تستبطن أي مشروع أيديولوجي أو إمبرطوري يتخطى الحدود. ليست هناك حدود فاصلة وواضحة بين هذه «الإيرانات» الثلاث، كما ليست ثمة كتل داخل إيران صارمة الملامح تمثل كل منها إيرانها الخاصة بها، بل هناك تداخل وغموض التعريفات حيث تبدو هذه «الإيرانات» كثلاث دوائر تتداخل في منطقة الوسط، بما يعني اشتراكها في عناصر عدة، لكن اختلافها في عناصر أخرى.
ما يمكن العرب والعالم التعامل معه بسهولة أكثر وندية واحترام متبادل هو «إيران الثالثة» القائمة على مبدأ الدولة - الأمة، والتي يكون مواطنوها إيرانيين بالتعريف (ولا يكون التعريف الفارسي أو التعريف الشيعي هو التعريف المركزي المحدد لهوية الدولة). وهذا يتناسب ويتلاءم مع دول الجوار سواء العربي أو التركي، ذلك أن كل دولة في المنطقة تنتهج سياسة خارجية وفق مبدأ الدولة - الأمة ولا تطلق مشروعاً عابراً للحدود يهدد إيران. وبتفصيل أكثر، وعلى سبيل المثل، ليس هناك مشروع قومي - عربي يهدد وحدة إيران أو سيادتها أو يطلب ولاء الإيرانيين العرب (البالغ عددهم تسعة ملايين). وليس هناك مشروع قومي تركي عابر للحدود يطالب بولاء ملايين الإيرانيين ذويي الأصل التركي. كما ليس هناك مشروع سنّي يتدخل في النسيج الإيراني ويشتغل على السنّة الإيرانيين بدعوى أنهم مضطهدون أو سوى ذلك. وفي المقابل هناك مشاريع إيرانية شيعية أو إمبرطورية تقوم بالعكس وتتدخل في أكثر من بلد عربي بهذا المسوغ أو ذاك.
السؤال العملي إذاً، والذي يحتاج إلى تفكير عربي وجهد عربي وسياسة خارجية عربية يحوم حول إمكان تعزيز «إيران الثالثة»، إيران الدولة - الأمة، التي من حقها أن تدافع عن مصالحها، لكن في إطار احترام مصالح دول الجوار. وكيف تمكن تقوية الكتلة أو الكتل الإيرانية داخل الدولة والمجتمع الإيراني التي تؤمن بالدولة الإيرانية كدولة - أمة يكون التعريف الإيراني، وليس الفارسي أو الشيعي، هو المحدد الأهم في تشكيلها وصوغ سياستها الخارجية.
خالد الحروب - * كاتب وأكاديمي عربي - الحياة