في الصورة المرجع الشيعي الأعلى علي خامنئي، الذي عادة ما يجلس على كرسي مرتفع فوق جمهوره، ويحتفظ بمسافة بعيدة نسبياً بينه وبين الحضور، هو الحاكم الفعلي لإيران. العمامة السوداء التي تلف رأس طهران، هي التي تتحكم بالأجهزة الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية. خامنئي هو الحاكم الديني والسياسي لإيران، وهو فوق الدستور، وحسب خطبة لأحد خطباء جمعة مدينة مشهد، فإن خامنئي «لا تجوز تخطئته، لأنه يتلقى تعليماته من الإمام المهدي، ومن يخطئ خامنئي، فهو يخطئ إمام الزمان ذاته»، على اعتبار أن وظيفة المرشد هي نائب الإمام المستور حسب الدستور الإيراني، وقد قال الخميني ذات يوم إنه هو الدستور، بل إنه فوق الدستور. وينص الدستور الإيراني على أن «ولاية الأمة في ظل استتار الإمام تؤول إلى أعدل وأعلم وأتقى رجل في الأمة ليدير شؤون البلاد»، وعلى هذا فخامنئي، اجتمعت فيه كل تلك الشروط، ومن وظائفه: رسم السياسات العامة بالتشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام، وهو القائد العام للقوات المسلحة، وبيده قرار السلم والحرب، وحل الخلافات وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث، وغير تلك من الوظائف التي تجعله يمتلك سلطات مطلقة، على الرغم من كونه غير منتخب من الشعب. هناك ـ كذلك – عدد من المؤسسات في هيكل الدولة تتوزع في ما بينها السلطات منها مجمع تشخيص مصلحة النظام، الذي يعين أعضاءه المرشد، والذي يرأسه منذ تأسيسه هاشمي رفسنجاني، والمجمع هو الذي يختار من يحل محل المرشد حال شغور مكانه، ويختاره من بين «مجلس خبراء القيادة» الذي يعد جهازاً يضم عدداً من رجال الدين الشيعة وغيرهم من أصحاب الاختصاصات المختلفة، وهناك «مجلس صيانة الدستور»، الذي يدرس قرارات المرشد، ويعطي له المشورة، ثم هناك البرلمان وجهاز الأمن القومي، وكلها مؤسسات تتقاسم السلطة في البلاد وفقاً لتوافق معين. والحقيقة أن أضعف سلطة في إيران هي السلطة التي يمثلها نواب الشعب الذين يأتون في انتخابات، على الرغم من أنهم لا يسمح لهم بالترشح إلا بعد أن يمروا بعدد من عمليات الغربلة التي لا يمر خلال ثقوب غربالها إلا من كان مخلصاً لنظام الولي الفقيه وثورة الخميني، ولذا فإن مؤسستي الرئاسة والحكومة والبرلمان لا تتمتعان بالسلطات ذاتها التي لخامنئي، أو مؤسسة «الحرس الثوري» في البلاد. المرشد غير المنتخب من الشعب يستطيع إقالة رئيس الجمهورية وحل البرلمان، على الرغم من أنهما منتخبان. وقد عزل الراحل الخميني أول رئيس جمهورية في إيران، أبو الحسن بني صدر سنة 1981 لمحاولاته الحد من تفرد الخميني بالسلطة. هذه السلطات الدينية والسياسية التي تتناهي في يد مرشد الثورة الإيرانية، توحي ظاهراً بأن المرشد هو المتحكم في مآلات الأمور، وهذا صحيح إلى حد كبير، غير أن هذه السلطات لم تمنح له إلا وفقاً لتوافقات معينة داخل إيران، لا يستطيع حتى المرشد الإخلال بها. هناك قوى متعددة ذات مصالح داخل جسد السلطة، تتفاهم على عدم الإضرار بمصالحها، ونتيجة لهذه التفاهمات لا يزال النظام في طهران قوياً، رغم المعاناة الشعبية جراء سياسات النظام، التي جعلت أكثر من 40٪ من الإيرانيين تحت خط الفقر، حسب تصريحات أخيرة لوزير العمل في طهران. وتعد هذه التفاهمات بين تلك القوى لتقاسم السلطة والثروة في ما بينها سبباً من أسباب الفساد السياسي والاقتصادي في البلاد، حيث تعد إيران ضمن قوائم الدول الأكثر فساداً، حسب تقارير منظمة الشفافية العالمية (تصنف إيران في المرتبة 136 من اصل 175 دولة في ترتيب فساد الدول للعام 2014). وعلى الرغم من أن خامنئي هو الحاكم الفعلي والدستوري لإيران، إلا أن مؤسسة الحرس الثوري تعد أقوى المؤسسات العسكرية والاقتصادية في البلاد، نظراً لما تملكه من إمكانات اقتصادية وعسكرية هائلة تجعل كلمتها عند الخلاف مرجحة. وهذه المؤسسة في ما يظهر تأتمر بأمر المرشد، غير أن طبيعة المؤسسات العسكرية المتغولة عادة ما تتحول من الولاء للمدنيين إلى ولاءات متشعبة لقيادات عسكرية مختلفة داخل بنيتها، حسب ما تمليه مصالح المنتسبين إليها. والأسبوع الماضي سربت الصحافة الإيرانية تقريراً استخبارياً خطيراً ظهر فيه مرشد الثورة شاكياً من عدم تنفيذ تعليماته من قبل قيادات الحرس الثوري، التي يبدو أنها أصبحت تتصرف بما لا يتواءم مع سياسات المرشد. لم يوضح التقرير بالضبط ما هي طبيعة التعليمات التي يصدرها خامنئي، والتي لا ينصاع لها قادة الحرس، ولكن يبدو أن شكواه مريرة، لأنها لم تكن لتخرج بهذا الشكل، وتسرب (ربما عن عمد) إلى الصحافة، إلا لإرسال رسائل معينة لقيادات الحرس، ولبقية مسؤولي الدولة والرأي العام في إيران. وهذا الأسبوع طلب 15 عضوا في البرلمان الإيراني «استدعاء ومساءلة وزير الاستخبارات محمود علاوي، الذي يقف على رأس مجلس التنسيق لـ 16 وكالة استخبارات من أجل شرح كيفية تسرب تقرير سري عن حرس الثورة لأيدي الصحافة الإيرانية». وقد نشر هذا التقرير في جريدة «سهام» المقربة من المعارض المعتقل مهدي خروبي. وذكر في الصحيفة ان التقرير كتب بناء على طلب من روحاني، الذي نقله بدوره إلى خامنئي. وجاء فيه أن رئيس الاستخبارات لحرس الثورة حسين صائب، انشأ مجموعة بيوت آمنة يقوم فيها رجال المعارضة بإجراء حوارات ووضع خطط وبرامج ضد نظام روحاني، بعلم وتسهيل من وزير الاستخبارات في الحكومة، وجاء فيه أيضا (وهذا هو المهم) أن روحاني طلب من خامنئي إعطاء أوامر بوقف النشاط الدسائسي الذي يمارسه وزير الاستخبارات ضد روحاني، ورد خامنئي على ذلك بقوله: «حرس الثورة لا ينصاع لأوامري».. وفي العبارة إشارة إلى أن المخطط الذي يقوده وزير الاستخبارات، إنما ينفذه لصالح حرس الثورة الذي أوعز إليه بذلك، لإضعاف أوراق روحاني، خاصة في قضية التفاوض مع الغرب على خلفية الملف النووي الإيراني، التي لا يبدو أن رجال الحرس راضون عن سيرها. وبالمجمل، فإن الصورة التي يبدو فيها خامنئي، «نائب الإمام المهدي»، في إيران ممسكاً بمقاليد الحكم في البلاد، حسب الدستور، هذه الصورة تهتز بشكل أو بآخر، إذ يبدو أن إيران تتحرك ببطء لجعل السلطة والثروة في يد مجموعة من ضباط الحرس الثوري الإيراني، الذين يبدو أن تصرفاتهم تثير قلقاً وغضباً شديدين داخل إيران وخارجه. فهل بدأت إيران ـ إذن ـ مشوارها لمغادرة العمامة السوداء إلى الطاقية العسكرية، أم أنها ستستمر في تقسيم كعكتها بينهما إلى حين؟
د. محمد جميح - كاتب يمني - القدس العربي
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video