لم يجانب السيد محمد علي سبحاني مستشار وزارة الخارجية الإيرانية الحقيقة عندما اعترف يوم الثلاثاء بأن السيد نوري المالكي رئيس وزراء العراق السابق، ونائب الرئيس الحالي، عمل أثناء فترة رئاسته للحكومة على اتباع سياسات مذهبية طائفية أدت إلى تشكيل «حاضنة لتنظيم الدولة الاسلامية». السيد المالكي ومثلما قال مستشار وزارة الخارجية الإيراني في أول نقد من نوعه على هذا المستوى، «إنه لولا سياسة حكومة المالكي الاقصائية ضد المجموعات السنية في العراق لما وجد تنظيم الدولة حاضنة شعبية له من أهل السنة». لا نعرف ما إذا كان السيد سبحاني بمثل هذا النقد الجريء و»غير المألوف» يمثل نفسه أم المؤسسة الإيرانية الحاكمة، ويقر بطريقة مباشرة بالأخطاء التي ارتكبتها بصمتها على هذا الرجل وسياساته الطائفية الاقصائية هذه، بل ودعمها له على مدى ثماني سنوات، وهو دعم لولاه لما أكمل ولايته الأولى، بل لما أصبح رئيسا للوزراء منذ البداية. السيد المالكي لم يمارس سياسات الاقصاء الطائفي فقط، وإنما سياسات التهميش والتغول في القتل والتعذيب والمحسوبية والفساد بأنواعه كافة، والاستفزاز لكل مكونات الشعب العراقي من عرب وأكراد ومسيحيين، بل والعديد من أبناء وقيادات الطائفة الشيعية نفسها كل هذا أمام نظر السلطات الإيرانية وصمت المرجعية الشيعية العراقية نفسها، وربما مباركتها أيضا. مثل هذه السياسات أضرت بإيران وصورتها ومكانتها في الوطن العربي والعالم مثلما أضرت بالطائفة الشيعية أكثر مما أضرت بأبناء الطائفة السنية العراقية، فهذه السياسات «المالكية» العنصرية والطائفية، لم تخلق الحاضنة السنية لـ»الدولة الاسلامية» فقط، وإنما أعادت الاحتلال الأمريكي «المقنع» إلى العراق والمنطقة بأسرها، ووفرت الغطاء «الشرعي» للادارة الأمريكية لانتهاك السيادتين السورية والعراقية «بعدم ممانعة» إيرانية، وضرب أهداف داخلهما، ولا نستبعد أن تتحول الطائرات التي تقصف يوميا مواقع «الدولة الاسلامية» في البلدين إلى توجيه صواريخها إلى المنشآت النووية الإيرانية، والقصر الجمهوري في دمشق بعد أن تنهي مهمتها التي جاءت من أجلها أو حتى قبلها، إذا تأتى لها ذلك في نهاية المطاف، وهو موضع شك في رأي الكثيرين ونحن من بينهم. إيران دولة تملك عقولا متميزة في المجالات كافة، العلمية والفكرية والاستراتيجية، وبنت صناعة عسكرية متطورة، ولا نفهم كيف عجزت هذه العقول عن رصد الأخطار التي ترتبت على الممارسات الاقصائية والطائفية لحكومة المالكي، وأوصلت المنطقة إلى ما وصلت إليه من كوارث، ووضعت بلادها في هذا الوضع الحرج. القصور في اكتشاف سياسات المالكي هذه وأعراضها الجانبية مبكرا ينطبق أيضا على نظيراتها في سورية حليفة إيران الاستراتيجية الكبرى، والانتقاد الذي وجهه السيد سبحاني للنظام السوري واستخدامه القوة لقمع مطالب الشعب السوري المشروعة، سلمية الطابع في بداية الانتفاضة، جاء متأخرا، فإيران التي واجهت انتفاضة شعبية مماثلة لنظيرتها السورية بشكل أو بآخر، تصرفت بطريقة مختلفة جدا، ولم يُقتل في هذه الانتفاضة التي استمرت عدة أسابيع إلا 26 شخصا ثلثهم من قوات الأمن الإيرانية، ولم تعتقل السلطات الإيرانية رموز هذه الانتفاضة مثل محمد خاتمي، وهاشمي رفسنجاني، وحتى حسن روحاني، والأخير يتربع حاليا على عرش رئاسة الجمهورية بعد فوزه بانتخابات رئاسية عامة. الأخطاء التي ارتكبت في العراق على مدى السنوات العشر الماضية التي أعقبت احتلاله وإذلال شعبه وبذر بذور التقسيم العرقي والطائفي فيه على أيدي الحاكم الأمريكي بول بريمر تتحمل إيران النصيب الأكبر منها، لأنها كانت صاحبة قرار في هذا البلد من خلال حلفائها وعلى رأسهم السيد المالكي. فلا يمكن أن نصدق مطلقا أنها لا تعرف بكل ممارسات القمع والفساد التي كانت تجري تحت سمعها وبصرها، وما كشفته صحيفة «النيويورك تايمز» قبل يومين عن كم الفساد الفاحش في الجيش العراقي يشيب له شعر الرضع. فعندما يبيع «جنرال الدجاج» مؤن جنوده، وعندما يراكم «جنرال الدفتر» الملايين في حساباته من جراء العمولات وصرف رواتب لأسماء وهمية، وعندما ينتشر صيت «جنرال العرق» في معظم أركان البلاد، لشربه الخمر أثناء العمل، فمن الطبيعي أن يهرب ثلاثون ألف ضابط وجندي عراقي بأسلحتهم الفردية قبل وصول قوات «الدولة الاسلامية» إلى الموصل ودون أن يطلقوا رصاصة واحدة، وهذه الألقاب ليست من عنترياتنا وإنما من عند الصحيفة الأمريكية. فهل هذا هو جيش «العراق الجديد» الذي جرى إنفاق أكثر من 25 مليار دولار على إعداده وتسليحه وتدريبه، للدفاع عن البلاد وحدودها وحماية شعبها؟ لا يكفي أن يخرج علينا السيد سبحاني بهذه الاعترافات التي أدلى بها إلى موقع إيراني مغمور، بل يجب أن يقوم بهذه المهمة السيد علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإيرانية نفسه من خلال مراجعة شاملة لكل محطات المرحلة الماضية وما شابها من أخطاء، وبما يصب في مصلحة الوحدة الوطنية العراقية، ومحاربة كل أشكال التقسيم المذهبي، فهذه الخطوة هي الأهم التي يمكن أن تحقق الاستقرار ليس في سورية والعراق ولبنان فقط وإنما في المنطقة بأسرها، وتجنيبها حربا طائفية مذهبية يمكن أن تستنزف أبناءها وثرواتها لعقود إن لم يكن لقرون قادمة. نحن في انتظار هذه المراجعة الإيرانية على أعلى المستويات، ونأمل أن لا يطول انتظارنا. عبدالباري عطوان - فلاش برس
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video