لم يعد يخفى على أحد أنه من غير الممكن اليوم تجاهل دور إيران ونفوذها في المنطقة، بدءاً من سورية والعراق مروراً بلبنان واليمن، وأذرعها الخفية في دول الخليج، ذلك أن طهران عملت منذ سنوات على تصدير "الثورة الإيرانية" إلى المنطقة العربية، والحقيقة أن إيران تعمل بشراسة واستنزاف على تحقيق مشروعها الإمبراطوري على حساب مقدرات الشعوب ودمائها، وإذا كانت هذه المصيبة فإن اعتمادها على الدين في ذلك يعني أن المصيبة أعظم.
سابقاً مارست إيران فعل "التقية" في أطماعها بالمنطقة العربية، فحاولت كسب التأييد الشعبي خارج حدودها عبر وقوفها مع القضية الفلسطينية ودعم فصائل المقاومة، ورفع شعار "الموت لإسرائيل"، فأوجدت "حزب الله" الذراع المخرب في لبنان والمساهم اليوم في قتل الشعب السوري. لكن هذه اللعبة انكشفت بشكل جلي، وأصبحنا أمام تدخل إيراني علني يعيث فساداً في المنطقة، وبات ملالي طهران يخوضون حروبهم من شققهم في إيران، معتمدين على عشرات الفصائل الشيعية المقاتلة في سورية والعراق واليمن، والمحملة بأبشع معاني الطائفية.
ومن الضروري عند الحديث عن النفوذ الإيراني في المنطقة، الإشارة إلى الأدوات التي اعتمدتها طهران لتشكيل ما يمكن تسميته بـ"الجيوش الصغيرة" في بعض البلدان العربية، هذه الجيوش التي على رغم من صغرها إلا أنها قادرة على قلب الأمور رأساً على عقب، وهي ورقة ضغط قوية تستخدمها إيران لتحقيق مصالحها العليا.
في البداية لعبت إيران على الوتر الديني في تجييش المقاتلين وإيهامهم بأن الحرب التي سيخضونها هي بوابتهم إلى الجنة، فاستغلت بعض الشيعة من المذهب "الاثنى عشري" وجيشتهم طائفياً حتى انتهى بهم المطاف في ساحات المعركة، فكانوا سبباً في إحداث الشرخ السني الشيعي، ولا نحتاج للكثير من الدلائل على هذا الكلام، فما حصل في سورية كفيل بكشف ذلك. وقبيل أن يصل المقاتلون العراقيون إلى منطقة مرقد السيدة زينب في ريف دمشق، كانت صور المرقد الذي أصابه بعض الضرر بسبب عمليات قصف قوات النظام تملء شوارع مدينة الصدر العراقية، مرفقة بعبارات من قبيل "لبيك يا زينب كلنا فداؤك"، وبعدها عبارات وجدت طريقها إلى شبكة الإنترنت من منطقة المرقد من قبيل "زينب لن تسبى مرتين".
وأفرز الشحن الطائفي والمذهبي الإيراني وجود فصائل شيعية مقاتلة في سورية مثل "لواء أبي الفضل العباس" و"عصائب أهل الحق" شديدا التطرف. وانتقلت إيران إلى ما هو أخطر من ذلك، إذ شرعت في تطبيق مشروعها الديني القائم على نشر مذهب "الأثنى عشرية" شديد التطرف والعداء لأهل السنة، وليس الكلام هنا لمبادلة إيران بالطائفية، بقدر ما هو من الضروري الإشارة إلى تسخير الدين بطريقة براغماتية بحتة تنفيذاً للمشروع الإيراني.
ففي دمشق التي يبدو أنها محتلة فعلاً من قبل أذرع إيران، يستهدف "لواء أبي الفضل العباس" بعض الشباب هناك، ويغريهم بالمال والسلاح على مرأى من نظام الأسد، مقابل التطوع في صفوف اللواء واعتناق المذهب "الأثنى عشري"، وبحسب ما عرفته ممن هم على اطلاع تام بهذا الأمر في دمشق، فإن الحوزات الدينية الشيعية تلعب دوراً كبيراً في غسيل دماغ بعض الشبان في محاولة لإقناعهم بالتشييع.
وزد على ذلك ما يجري الآن في اليمن ومضي إيران في تحويل اليمنيين من المذهب "الزيدي" إلى "الأثنى عشري"، فمن يتابع نشأة الحوثيين هناك يعرف أن أنصار هذه الجماعة هم من المذهب "الزيدي" أكثر مذاهب الشيعة قرباً من أهل السنة، خصوصاً وأنه يعترف بإمامة "أبي بكر الصديق" و"عمر بن الخطاب" رضي الله عنهما، بعكس "الأثنى عشرية" التي خرج أتباعها علناً وشتموا خلفاء رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولم يكن لهذه الجماعة نفوذ كفيل بدق ناقوس الخطر في اليمن قبل سنوات، وما يحصل اليوم من اجتياح الحوثيين للمدن اليمنية المدينة تلو الأخرى أمر أعدت له إيران منذ العام 1994 مع وصول الأب الروحي لـ"الحوثيين" إلى طهران بصحبة ابنه حسين، وبقائهما هناك حتى العام 2002، ومن ثم عودتهما فيما بعد محملَين بأفكار المذهب "الأثنى عشري"، ومنذ ذلك الحين خاضت الجماعة التي أطلقت على نفسها اسم "أنصار الله" سبع معارك ضد الجيش اليمني منذ العام 2004 وحتى العام الجاري قتل فيها الآلاف من الجانبين، وها هي الجماعة اليوم وصلت إلى الحكومة اليمنية بدعم إيراني لم يقوى أحد على مجابهته.
صحيح أن إيران أوجدت مطارقها التي تضرب فيها في المنطقة، لكن ذلك لا يعني أنها لم تتكبد خسائر فادحة، ولا يكاد يمر يوم لا تشيع فيه القرى الشيعية في العراق أو لبنان أو سورية أو اليمن قتلى لها سقطوا جراء المعارك التي يخوضونها إما ضد قوات المعارضة السورية أو مقاتلي "تنظيم القاعدة". وهنا يكمن التطور الملفت في الاستراتيجية الإيرانية لتوسيع نفوذها في المنطقة، إذ وجدت إيران نفسها مضطرة أمام هذه الخسائر البشرية، إلى تغيير أدواتها في إيجاد قواعد جديدة لها في المنطقة، وبدأت في تغيير سياستها القائمة على استمالة المقاتلين على أساس المسوغات الدينية والمذهبية، وعمدت بدلاً من ذلك إلى دعم مقاتلين من إثنيات أخرى وجعلهم جزءاً من الجسد الإيراني.
والحديث هنا يدور حول دعم طهران لمقاتلي "حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)" الكردي، وهو الفرع السوري من "حزب العمال الكردستاني (PKK)"، ويخوض الـ (PYD) حالياً معارك عنيفة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في عين العرب (كوباني) شمال سورية، وتسعى إيران من وراء هذا الدعم إلى إيجاد ذراع لها في منطقة محاطة بالمكون السني، إذ سبق وأن أشار مسؤول عراقي كبير لوكالة رويترز في وقت سابق، أن "إيران الشيعية الحليف الإقليمي للأسد، تدعم بقوة حزب الاتحاد الديمقراطي، وأنها تهدف من وراء دعم مثل هذه الجماعات إلى ضمان وجود جماعات قوية تابعة لها على الأرض السورية في حال خرجت الأمور عن سيطرة الأسد"، ويشير السياسي العراقي أيضاً إلى أن حكومة المالكي (رجل إيران في العراق)، دعم الكرد لإضعاف علاقتهم مع السنة عبر وضع حدود تفصل بين الطرفين.
وليس مبالغاً القول إن إيران لم تعر بالاً إلى أحد في سورية، حتى الدروز في جبل الشيخ لم يسلموا من المشروع التوسعي لإيران في سورية، وتسعى طهران من خلال ذراعها حزب الله إلى ضم أبناء الجبل إلى العباءة الإيرانية، وهذا الكلام ليس جزافاً إذ تحدث أحد شيوخ الدروز هناك إلى هذا الموقع (السورية نت)، عن أن وفداً من حزب الله برئاسة سمير القنطار عرض على دروز الجبل السلاح، وفتح مكاتب للحزب في القرى الدرزية الحدودية، رغبة من إيران في إيجاد مراكز متقدمة لحزب الله على الشريط الحدودي.
يبقى أن أقول إن على دول مجلس التعاون الخليجي والأردن أن تقف إلى جانب سورية من دون نظام الأسد الذي جر الويلات للمنطقة، وأن تعمل مجتمعة على إيقاف المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة العربية السنية، لأن من يتحاشى النار لا بد أن تطاله في النهاية. السورية نت.