ترجمة وتحرير نون بوست
معظم ما يُكتَب هذه الأيام عن داعش يركّز بالأساس على التحدي الذي تشكله للمنطقة، التي أصبح التوتر الطائفي فيها أمرًا يوميًا، وهو توتر عززته داعش ليصبح الخطر الأبرز للمنظومة السياسية فيها — الأمر الذي كلّف رئيس الوزراء نوري المالكي منصبه.
تؤثر تبعات الانجرار إلى خطاب طائفي مفتوح كهذا على إيران أيضًا، وهي الدولة الشيعية التي طالما أدركت أن الانحصار في الخطاب الشيعي يضرها، وأنها يجب أن تبذل قصارى جهدها لترسم صورة إسلامية شاملة لنظامها تتجاوز الفروق الطائفية لكسب ود شعوب المنطقة. يُعَد هذا حجر أساس للسياسة الخارجية الإيرانية، والتي قامت دومًا على مخاطبة العالم الإسلامي بشكل عام، والاهتمام بقضاياه الأساسية، مثل القضية الفلسطينية التي تعج بها خطب القيادات الإيرانية، ومعاداة الولايات المتحدة وهيمنتها على النظام الدولي. بالطبع، أدى هذا إلى استعداء الدول المحافظة في المنطقة طوال الوقت، مثل السعودية ومصر، والتي تحافظ على علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة.
كانت السعودية واضحة في رفضها للخطاب الإيراني إبان ثورة 1979، وهو رفض نجحت إيران في استخدامه لصالحها، عبر دعم حركات مثل حماس وحزب الله وتحدي إسرائيل بشكل أوضح، لتكسب مصداقية قوية في الشارع العربي. الحفاظ على التحالف مع حماس تحديدًا كان مهمًا ورمزيًا في آن، لأنها في القلب من القضية الفلسطينية، ولأنها الحليف السُني الأبرز الذي استخدمته إيران لتثبت أنها متجاوزة للطائفية في سياستها الإقليمية.
سياسة متجاوزة للطائفية
احتفت طهران بهذا المحور (إيران-سوريا-حزب الله-حماس) المتجاوز للطائفية باعتباره انتصار سياسي له يؤكد على وحدة العالم الإسلامي التي استند إليها خطاب الثورة، وهو ما دعاها إلى رؤية نفسها باعتبارها نصير المسلمين في شتى أنحاء العالم. باندلاع الربيع العربي، أملت إيران أن يكون النموذج الإسلامي الخاص بها هو النموذج المحتذى بها في الدول التي طالها التغيير، حتى رُغم أن الحركات الإسلامية الأساسية في المنطقة، مثل الإخوان المسلمين، بدت غير مرّحبة بالنموذج الإيراني.
أما الآن، وقد تحوّل الربيع إلى خريف وأدى إلى فوضى تامة في سوريا والعراق، فقد صعدت داعش من رحم هذه التحولات، وأصبحت هي الخطر الأساسي الذي يهدد المنطقة من المنظور الغربي، وهو ما دفع إلى تدخل أمريكي جوًا (حتى الآن). لسخرية القدر، أصبح وجود داعش على الأرض يفرض على إيران والولايات المتحدة العمل ضد نفس العدو، وهو ما يدفعنا للتساؤل عن السبب الذي جعل إيران تنأى بنفسها عن التحالف الدولي، رُغم ما يضفيه من شرعية دولية على نظامها.
تعمل القيادة الإيرانية في عالمها السياسي والنفسي الخاص، وهي تتجاوب مع عوامل مختلفة تبدو في بعض الأحيان متجاوزة للحسابات الجيوسياسية الصرفة. معايير هذه النفسية للقيادة الإيرانية تحتّم عليها ألا تضع نفسها في هكذا تحالف، لتصبح شريك صغير في حلف تقوده الولايات المتحدة كقوة دولية أساسية، فإيران تنظر لنفسها باعتبارها لاعب رئيسي، بل وأكثر أهمية نظرًا لموقعها وتاريخها، من أي طرف دولي. ورُغم أن هذا الموقف الإيراني لا يعني أن الطرفين لا يتواصلا بشأن التفاصيل الجارية على الأرض، إلا أنه يجعل الدخول هكذا صراحة في الحلف الأمريكي ضد داعش إهانة لرؤية إيران لوضعها الإقليمي.
شكوك
تشك القيادة الإيرانية في نوايا وصدق الولايات المتحدة في حربها ضد داعش، إذ تتهمها بدعم المتمردين في سوريا، والضلوع في ظهور التكفيريين كما تسميهم. التصريحات التي يدلى به وزير الخارجية جون كيري حيال الأدوار السعودية والإماراتية والتركية في مواجهة داعش، تبدو دليلًا كافيًا لإيران لإثبات صحة رؤيتها، إذ تعتقد إيران، وكثيرون أيضًا، بأن تلك الدول ضلعت في ظهور داعش. أضِف إلى ذلك، أن الالتزام الأمريكي بإطاحة بشار الأسد الذي يقف نظامه هو أيضًا في مواجهة داعش، يعزز من فقدان الثقة بين إيران والولايات المتحدة.
عوضًا عن التحالف الدولي، تعتقد إيران أن صلاتها بالحكومة في بغداد، وبحكومة كردستان الإقليمية، يُعد كافيًا للضغط على داعش وكبح جماحها، وهي القوى الحقيقية العالمية بخبايا الوضع على الأرض. وقد احتفت القيادات الإيرانية بالفعل بما رأت أنه رد فعل قوي وسريع من قبلها لدعم العراق ضد داعش، وكذلك دعم البشمرجة، الذين ظهر معهم بشكل علني لأول مرة قاسم سليماني، قائد قوات القدس المعروف.
يقف التاريخ في صف إيران، هكذا تعتقد القيادة الإيرانية. فحين تنسحب الولايات المتحدة بقواتها من المنطقة وتعود إلى موطنها في غضون سنوات، ستصبح إيران هي القوة العسكرية الضاربة في المنطقة، والأقدر على مواجهة التحديات الإقليمية، معزّزة بعلاقات قوية مع النظام السوري (الذي لم يسقط حتى الآن) ومع العراق وحزب الله.
تثق القيادة الإيرانية في أن هذا المحور سيعطيها حرية حركة إقليمية مقارنة بأي لاعب آخر، وسيتيح لها أن تعيد التركيز مجددًا على إسرائيل، بما يسمح لها بأن تستعيد مكانتها الإقليمية جماهيريًا، والتي تأثرت بعد الربيع العربي إثر دعمها لنظام الأسد، وبروز بعض من سياساتها الطائفية. ما إذا كان ما تعتقده إيران صحيحًا وممكنًا هو أمر ستكشف عنه الأيام.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية