ذا هو المقال الأول من سلسلة مقالات مترجمة حول الوضع الإيراني، من عدد نوفمبر 2014 من مجلة الإيكونوميست البريطانية
ترجمة وتحرير نون بوست
خلال أقل من شهر، ستنطلق المحادثات مجددًا بشأن تحجيم برنامج إيران النووي. لا تزال إيران تصر، بعد 12 سنة من محاولات إقناعنا المستمرة، بأنها لا تسعى لقنبلة نووية، ولكن فقط لطاقة نووية للاستخدام السلمي. ولكن أحدًا لا يصدقها. إذا انهارت المحادثات، سيُنذر ذلك بسباق تسلّح نووي في الشرق الأوسط، أو ربما لهجمة عسكرية أمريكية أو إسرائيلية على البنية التحتية الإيرانية لوقف مساعيها. في كلتا الحالتين ستكون العواقب وخيمة.
لا تزال هناك الكثير من الأمور العالقة بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد (أعضاء مجلس الأمن الدائمون + ألمانيا). تنصب الجهود بالأساس على آليات الاتفاق، فالطرفان لا يمكنهما الآن الاتفاق على عدد أجهزة الطرد المركزي التي يمكن لإيران أن تستخدمها لتخصيب اليورانيوم، أو طول المدة التي يسري فيها الاتفاق، أو سرعة رفع العقوبات الاقتصادية.
يمكن سد هذه الفجوة إذا وثقت إيران والولايات المتحدة في بعضهما البعض. أحد أسباب توتر هذه العلاقة بشدة هو أن صورة إيران لدى الرأي العام الغربي قديمة جدًا لدرجة مُضحِكة. سيساعد فهم أفضل لإيران كبلد كثيرًا في دفع المحادثات قدمًا نحو تسوية شاملة — أو على الأقل تجنّب السيناريو الوخيم.
إيران اليوم
الكثير مما تقوم به إيران خاطئ تمامًا. فهي تموّل الإرهابيين والميليشيات في لبنان وفلسطين، وتساند نظام بشار الأسد الدموي، كما أن مسؤوليها ينكرون حق إسرائيل في الوجود بشكل مستمر. أضِف إلى ذلك معاملة النظام الوحشية والظالمة في الداخل للمعارضين. يوم السبت الماضي، وقبل استنكار أحد مبعوثي الأمم المتحدة لتزايد أحكام الإعدام في إيران ومعاملتها للنساء، تم إعدام امرأة لقتلها رجلٍ اتهمته بالاعتداء الجنسي عليها، فيما قال آخر بأن وكالة الطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة اشتكت من أن إيران ليست بالشفافية المطلوبة بخصوص بحوثها النووية — وهو جزء مما تقوم به من تملّص وخداع.
مهما بلغ كل ذلك من سوء، يظل استهجان الغرب لإيران بشكل خاص واستثنائي يضعها في صورة قاتمة جدًا، باعتبارها عدوًا لن يتبدّل. فقط كانت جزءًا من محور الشر الذي صنّفه جورج بوش الابن، وهي ديكتاتورية تحاول تصدير ثورتها باستمرار، وتقتات على نمط مخيف من الإسلام قد تكون لاعقلانيته كافية للتسبب في كارثة نووية، بل إن البعض قد لام الرئيس الأمريكي باراك أوباما لقيامه بالتفاوض من الأصل مع هذا الكيان الظلامي.
مرت 35 سنة منذ زيارة آخر مسؤول أمريكي لإيران، وقد تغيّرت إيران كثيرًا، إذ انطفأت تمامًا نار الثورة فيها، كما تبيّن التغطية الخاصة لإيران في عدد هذا الأسبوع من مجلة الإيكونوميست. فبنزوح الكثيرين من القرى إلى المدن، أصبحوا أكثر غنى، وزادت رغبتهم في الحصول على السلع الاستهلاكية والتكنولوجيا الغربية. يلتحق أكثر من نصف الإيرانيين بالجامعات، بعد أن كان يلتحق الثُلث فقط منذ خمس سنوات. هذا بينما فقدت السياسة الردايكالية بريقها وارتفع رصيد الوسطيين البراجماتيين بعد رئاسة أحمدي نجاد الكارثية، وفشل الانتفاضة الخضراء — التي سعت لإسقاطه في 2009 — وأثار الربيع العربي الفوضوية. كذلك تراجع المجتمع الديني التقليدي الذي طالما حلم به الملالي. بمرور الوقت، أصبحت أعداد المصلين بالمساجد تتضائل، ولم يعد يُسمَع الأذان باستمرار، خاصة وأن الكثيرين يشكون الضوضاء. في قم، العاصمة الدينية، يضاهي مركز تسوق عملاق الحوزات العلمية هناك. وبينما تتأسس خلافة على أرض العراق وسوريا، يبدو على الناحية الأخرى أن هناك دولة إسلامية يتراجع الدين فيها.
إيران ليست ديكتاتورية صِرفة. المرشد الأعلى، آية الله على خامنئي، هو صاحب القول الفصل، ولكنه دوره هو الفصل بين أجنحة النُخبة المختلفة، وهي مكونة من آلاف من السياسيين ورجال الدين والجنرالات والأكاديميين ورجال الأعمال ممن يشكلون فرقًا متصارعة ومُربِكة ومتغيرة باستمرار. ورُغم أن هذا لا يجسد ديمقراطية بأي شكل، إلا أنه بمثابة “سوق” سياسي، وكما لاحظ الرئيس السابق أحمدي نجاد، السياسات التي تنشأ دون إجماع أو اتفاق تلك الفرق، لا تعيش طويلًا. لذلك، اختارت إيران العام الماضي حسن روحاني رئيسًا، وهو الذي يعتزم الانفتاح على العالم، وكبح جماح الحرس الثوري المتشدد. ينتمي روحاني إلى النظام الإيراني، وهذا طبيعي، غير أن حكومته تضم حاصلين على درجات الدكتوراه الأمريكية أكثر من حكومة أوباما نفسه، وهو ما يقول لنا الكثير عن الواقع الإيراني اليوم.
الطريق إلى التسوية
ماذا يعني كل ذلك لاتفاق نووي؟ في البداية، يعني أن إيران تتعامل براجماتيًا لتصل إلى ما يصُب في مصلحتها، وليس بشكل درامي لإسقاط النظام العالمي، أي أنه يمكن أن يؤدي التفاوض معها إلى نتاج مثمر. ويعني أيضًا أن القوة في إيران تتحرك بين أجنحة مختلفة، تمامًا كالولايات المتحدة، وبالتالي يجب حماية أي اتفاق معها في المستقبل من عواقب وصول رئيس متشدد مرة أخرى للرئاسة. وأخيرًا، وهو الأهم، أن الوقت في صالح الغرب.
فكلما طال الوقت، كلما تزايد تراجع أرصدة ثورة 1979، وكلما أصبحت إيران أكثر انفتاحًا. ستتراجع المفاهيم الصلبة أكثر تحت وطأة مخاوف الحياة اليومية، مثل زيادة الدخل والتجارة. لن تتنازل إيران بين ليلة وضحاها عن برنامجها النووي، وهو ما قد يراه الإيرانيون بمثابة إهانة، وهي كذلك لن تصبح فجأة على علاقة جيدة بالولايات المتحدة، ولن تتوقف عن التدخل في جوارها. ولكن إذا ما شعر النظام في إيران بأنه يمكنه تفادي مصير القذافي، الذي تنازل عن برنامجه النووي وسقط نظامه في النهاية، لن يكون كبح البرنامج النووي في نظره سوى مقامرة.
سيساعد الوقت أيضًا لأن الوصول لاتفاق يصب في مصلحة إيران أكثر مع الوقت، فروحاني يحتاج إلى مخرج من العقوبات. فبعد معدل نمو سنوي بلغ ٥٪ على مدار العقد الماضي، انكمش الاقتصاد بـ٥.٨٪ في 2012. يساهم النفط في دفع فواتير الحكومة، ولكن تراجع أسعار النفط مؤخرًا بـ٢٥٪ يضغط على الاقتصاد أكثر. تقع إيران أيضًا في منطقة مضطربة، إذ تهدد داعش حلفاءها الشيعة في العراق، بينما يقع نظام الأسد وحزب الله تحت نيران الحرب الجارية في سوريا. هذا بينما ترسل إيران الإشارات بين الحين والآخر للولايات المتحدة بأنها يجب أن تهتم بالمفاوضات لتضمن الدعم الإيراني في الشرق الأوسط. في الواقع، إيران الشيعية هي المستفيد الأكبر مما يجري: فالولايات المتحدة قد تواجه ردود فعل عكسية من حلفائها السنة في السعودية، ومن السنة الذين تحاول كسب ثقتهم في سوريا والعراق.
رُغم أن هذا الشهر هو الموعد الأخير للاتفاق، إلا أنه على مجموعة الخمسة زائد واحد أن تتحلى بالصبر. فالاتفاق الانتقالي الذي مهّد للمزيد من المحادثات، هو السبب في عدم وضع أي أجهزة طرد مركزي جديدة، وهو ما يخلق حالة التوقف في البرنامج النووي. على العالم ألا يغلق باب المفاوضات في وجه مطالب إيرانية مستحيلة، وكذلك ألا يستسلم لإيران خوفًا من ألا تكون هناك فرصة أفضل للوصول لاتفاق في المستقبل. بدلًا من ذلك، على مجموعة الخمسة زائد واحد أن تصبر حتى تنال الاتفاق المطلوب. سيكون جيدًا إن توصلوا لذلك بالفعل هذا الشهر، ولكنها لن تكون كارثة إن لم يتم.
هذا هو التقرير الأول من سلسلة تقارير من مجلة إيكونوميست حول الوضع الإيراني بعنوان (نهاية الثورة!)