سقطت صنعاء كما سبقتها بغداد وبيروت، خلاصة قُدمت للعربي في شتى أصقاع الدنيا. وتحت وقعها كان الجواب حاضرا كما هو تفسير السقوط، إيران ودعمها هما السبب.
بهذه الكلمات يمكن تلخيص واقع الدولة العربية الحديثة الناشئة بعد الاستعمار لا سيما في العقدين الأوليين من القرن الحادي والعشرين. فبغداد كانت أول من أُسقط وصنعاء آخر من سقط، لكنها ليست الأخيرة كما يبدو على الاقل في عيون مسوقي ظاهرة السقوط.
ثمة ما يستدعي التوقف عند الأحداث التي تعصف سريعا بالواقع العربي خلال الأعوام الثلاثة الماضية، توقف ربما يساعد في فهم أعمق يتعلق برسم إطار يتعلق بالمفاهيم والوقائع التي تحيط بالعرب وعلاقة ما يحدث في بلادهم بإيران.
مشهد سقوط العواصم
في أبريل من العام 2003 أسقطت الولايات المتحدة الأميركية العاصمة العراقية بغداد، سقوطا استحضر فيه العرب والمسلمون سقوطها من قبل على يد هولاكو في العام 1258، قيل إنها سقطت بسبب المساعدة الإيرانية، وأن الجيش العراقي لم يدافع عنها... إلخ.
"ثمة ما يستدعي التوقف عند الأحداث التي تعصف سريعا بالواقع العربي خلال الأعوام الثلاثة الماضية، توقف ربما يساعد في فهم أعمق يتعلق برسم إطار يتعلق بالمفاهيم والوقائع التي تحيط بالعرب وعلاقة ما يحدث في بلادهم بإيران"
خرج العرب من صدمة السقوط أو أُخرجوا منها بسبب التطورات الأكثر وقعا على حالهم في ظل الاحتلال الأميركي للعراق وتشكيل نظام سياسي طائفي مستنسخ بوسائل شتى عن نموذج صدّرته فرنسا -مفجرة الثورة- والتي أسست لنظام طائفي في لبنان من قبل.
تلى ذلك سقوط بيروت في يد حزب الله في العام 2008. وكان تفسير ذلك السقوط جاهزا وهو الدعم الإيراني. ثم اختتمت صنعاء مشهد إسقاط العواصم عبر جماعة الحوثي ومرة ثالثة حضرت إيران.
في مقابل سقوط العواصم، كان الربط أيضا بين إيران وعدم سقوط آخر لبغداد في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية، ومنع سقوط دمشق ونظام الأسد، وهو ربط سرعان ما تلقفته إيران بوصفه إنجازا وتمددا لها حتى البحر الأبيض المتوسط.
اللافت للانتباه في هذا السياق هو أن العرب ربما نسوا سقوطا بالغ الأهمية حدث من قبل ألا وهو سقوط القدس، تُرى هل سيُراجع البعض التاريخ ويفحص علاقة إيران بذلك؟
الدولة العربية الحديثة وعنقاء إيران
خلال أ كثر من 150 عاما لُقّن العرب أنهم أمة واحدة وأن قوميتهم هي من سيجلب لهم الوحدة والنصر والقدرة على مجابهة التحديات، وأن حضور الإسلام في الحيز العام غير مستحب وربما سبب لمنع الحداثة، وأنه يجب أن يبقى في المسجد ويوم الجمعة وشهر رمضان والحج. ولُقنوا أيضا أن السياسة مفسدة للدين وأن الدين كلما ابتعد كان ذلك في مصلحة الدين والسياسة.
نشأت دولة ما بعد الاستعمار ملكية كانت أم جمهورية مسكونة بهذا عبر نخب كانت تفتقد إلى الشرعية وإلى خطاب آخر غير خطاب "التحرير والتحرر" الذي تبين فيما بعد أنه أجوف وأنه للتضليل ولشراء الوقت ومنسق مع الخارج.
في المقابل خرجت إيران من التجربة القاجارية دولة ملكية جاءت بإرث الدولة الإخمينية الممتد في ذاكرة الإيراني لأكثر من 2400 عام آنذاك، وكرر النظام الملكي الإيراني ما كررته أنظمة عربية من إبعاد للدين/المذهب عن الحيز العام، فمنع الحجاب وجعل التعليم علمانيا، وسيطر على المشهد الديني كما السياسي.
لكن إيران في المقابل استطاعت أن تبني تحالفا مع الولايات المتحدة جعلها شرطي المنطقة واليد الأميركية الضاربة فيها، وحين منع العرب بترولهم عن أميركا وإسرائيل، تبرعت إيران بتعويض السوق النفطي.
صحيح أن هذا لم يمُكّن الولايات المتحدة من الإبقاء على النظام الملكي في إيران، لكن إيران الجغرافيا وشكل الدولة والناس بقيت مهمة للولايات المتحدة والغرب. حتى في عصر الجمهورية الإسلامية، لم تكن إدارة الرئيس الأميركي آنذاك جيمي كارتر -الذي قال إن ادارته كانت قادرة على محو إيران عن الخريطة- تريد قطع العلاقات مع واشنطن لولا ما حدث في صحراء طبس في خراسان من قتل للقوات الأميركية.
خلال الفترتين الملكية والجمهورية الإسلامية استند النظام السياسي إلى مصادر للشرعية جعلته أكثر تماسكا داخليا في مواجهتها للتحديات الخارجية، تماسك ربما لا يكون طويل الأمد، لكنه تمت المحافظة عليه في ظل النظام الملكي أكثر من ستين عاما، وبالنسبة للجمهورية الإسلامية تمكن هذا التماسك من جعل النظام يحقق انتصارات بالنقاط على خصومه من العرب وغيرهم.
ولعل الانتقال من حالة العداء أو الخصومة مع المجتمع الغربي بسبب الملف النووي إلى التفاوض خير دليل على ذلك. الانتقال إلى الجمهورية عبر ثورة شعبية، جعل منتج الثورة وهو النظام السياسي في وضع تفوق على جيرانه العرب الذين ارتبطوا بعلاقة مع الولايات المتحدة لكنها لم تمنحهم أي تفوق سياسي أو اقتصادي يذكر.
"في ظل النظام الملكي كان قطاع من الإيرانيين كارهين للنظام الملكي المستبد، لكن هذا لم يدفعهم للحديث عن تشكيل تحالفات على أساس مذهبي أو قومي من شأنها أن تدفع نحو تقسيم إيران "
مما سبق يبدو واضحا أن ثمة فرقا كبيرا في تشكيل الدولة الإيرانية الحديثة -التي لم تستعمر- والدولة العربية الحديثة ما بعد الاستعمار. هذا الفرق له علاقة بشكل النخبة السياسية وتعاملها مع الحكم وفكرة القدرة السياسية.
ففي حين كان النظام العربي ما بعد الاستعمار معني في ربط السُلطة بالثروة والأمن وتغييب فكرة الدولة والهوية والتراث التي تحافظ على تماسك المجتمع، ضاعف من تقسيم المجتمع وجعل الثروة بَوصلة السُلطة وليس الإنسان والمجتمع.
هذا لا يعني أن الوضع في إيران كان مثاليا، بل كان أفضل بمراحل عديدة على الوضع في بلد عربي مثل مصر أو العراق، فما بالك إذا ما قارناه بالوضع في اليمن أو ليبيا أو تونس.
في ظل النظام الملكي كان قطاع من الإيرانيين يتقدمهم رجال الدين ومجموعة من الليبراليين كارهين للنظام الملكي المستبد، لكن هذا لم يدفعهم للحديث عن تشكيل تحالفات على أساس مذهبي أو قومي من شأنها أن تدفع نحو تقسيم إيران كما حصل في العراق مثلا.
حتى في عصر الجمهورية الإسلامية والتي لديها معارضة سواء داخلية أو خارجية، لا يرى المتابع إستراتيجية تحالف على أساس قومي للفوز بالسلطة كما هو المثال في العراق وفي اليمن مثلا.
في هذا السياق تجدر الإشارة إلى الفشل الذي مُنيت به بعض القوى الإقليمية في التواصل مع تنظيم جند الله السُني في إقليم بلوشستان الإيراني خلال العقد الماضي، والذي يمكن أن يُفهم في سياق التماسك الذي حافظت عليه إيران خلال أكثر من أربعة قرون. تماسُك تفتقده الدولة العربية والمجتمع العربي ما بعد الاستعمار.
والسؤال المطروح لم غاب هذا التماسك؟ الجواب يكمن في الطريقة التي سيطرت بها بعض الأنظمة على السُلطة حتى أصبحت جزءا من إرثها "الشخصي" سواء على مستوى العائلة أو ضمن نخبة قريبة من العائلة كما هو الأمر في مصر وليبيا واليمن وتونس.
وحتى تتم المحافظة على الوضع القائم كان لا بد من خلق مزيد من التقسيمات منها ما تعلق بداخل النخبة السياسية ومنها ما هو داخل المجتمع نفسه سواء تعلق ذلك بالتقسيمات الدينية أو القبلية.
في هذا السياق تم خلق نموذج الدولة الدينية حتى تتم مواجهة الجماعات التي تُقدم نفسها للمجتمع بوصفها بديلا أو جماعات تريد الإصلاح بخلفية دينية. بهذا الأسلوب وعبر استخدام السُلطة التي تملك الثروة والأمن تم تفتيت المجتمع ومعه فكرة الدولة، فأصبح هيكلها هشا، إذ لا شرعية ولا قوة اقتصادية ولا مواطنة.
"لم تكن إيران بعيدة عن أمراض الدولة العربية التي ذكرت أعلاه، لكن تَعاقُب الأنظمة السياسية لم يسمح بالتلاعب بالجغرافيا ولا الإنسان ولا التراث كما هو الحال في الدولة العربية التي قامت بعد الاستعمار"
تشويه ممنهج لفكرة التدين والمواطنة والوحدة، فالمواطن هو من يتبع النظام والمتدين هو من يقتدي بنموذج الدولة و"شيوخها" ومن يخرج على القواعد التي يروج لها النظام إنما يفتت الوحدة الوطنية. أمر يذكر بمصطلح الزنديق الذي كان يُستخدم في العصر العباسي ضد معارضي الدولة. وبهذا تُستهدف الأفكار والآراء وأصحابها ويُنظر لهم كأعداء للمجتمع وتهديد لاستقراره، وعبر كل هذا استطاعت تلك الأنظمة أن تستمر.
لم تكن إيران بعيدة عن أمراض الدولة العربية التي ذكرت أعلاه، لكن تَعاقُب الأنظمة السياسية لم يسمح بالتلاعب بالجغرافيا ولا الإنسان ولا التراث كما هو الحال في الدولة العربية التي قامت بعد الاستعمار.
استخدمت إيران إرثها التاريخي الممتد وفق ما يرون لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، كما لجأت إلى المذهب الذي لم يستمر على تحولهم له إلا حوالي 500 عام. في حين حاربت الدولة العربية الحديثة فكرة الإرث التاريخي لأنه يُذكر بمفهوم الأمة والذي لا تريده هذه الدولة الحديثة، كما حاربت الإسلام في الحيز العام لأنه يطرح معيارا للشرعية يجعل شرعيتها مثار تساؤل وشك.
لقد دخلت الأنظمة إلى معركة السلطة بلا أسلحة ولا أدوات للقوة فأصبحت بلا وزن، ذلك أن الشرعية ومصادر القوة الأخرى كالاقتصاد والمواطنة وسيادة القانون تجعل الدولة ثقيلة الوزن ومتماسكة يصعب أن تتلاعب بها رياح التغيير السياسي مهما بلغت قوتها. وهذا ما جعل الدولة في إيران ثقيلة الوزن سياسيا في حين كانت الدولة العربية أشبه بالريشة في مهب رياح السياسة العاصفة.
ربيع العرب وإيران
أمام كل ما سبق، كان ما يسمى بالربيع العربي تحديا من نوع جديد لإيران بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي، تحد يختلف عن ما سبقه منذ نشأة الجمهورية الإسلامية.
قبل العام 2010 كانت إيران تتمتع بنعمة النموذج، وأنها النظام الذي يدافع عن المظلومين ويواجه قوى الاستكبار، في المقابل هناك أنظمة عربية تزيد أعداد المظلومين وتضع نفسها في سلة قوى الاستكبار، من هنا وُضعت إيران في معسكر المقاومة، كان كل ذلك عبر وسائل القوى الناعمة، حيث الكلفة الاقتصادية الأقل والتأثير السياسي الأكثر.
تغيرت المعادلة، فما سمي بالربيع العربي نافس إيران من حيث ظهور لاعبين يتبنون خطاب الدفاع عن المظلومين بعد أن نهض بعض المظلومين، وانتزعوا شيئا من حقوقهم، اعتبرت إيران أن ما حدث صحوة إسلامية في مصر وتونس وليبيا والبحرين، لكنه حراك موجه أميركيا في سوريا وهدفه ما سُمي بمحور المقاومة.
هذا الموقف أعاد إيران شعبيا وببساطة وسرعة إلى مربع الدولة الطائفية والمذهبية وجعلها تخسر كثيرا من وسائل القوى الناعمة لا سيما بعد موقفها غير الواضح إن لم يكن السلبي من الانقلاب في مصر.
كل ذلك كان يشي بأن إيران لم تكن مرحبة بما نتج من تغيرات بعد الربيع العربي، فهو ربيع يريد تغيير الوضع القائم الذي كانت إيران تكسب منه عبر وسائل القوة الناعمة وتبقي على صورة النموذج الثوري.
"إن قدرة "العنقاء الإيرانية" على التكيف مع التطورات المتسارعة والمفاجئة والتحرك بين مربعي الأيديولوجيا والمصالح يجعلانها تبدو في موقع من يحقق الانتصارات"
نقطة التحول الأساسية في سياسة إيران من العرب وربيعهم هو إدراك إيران أن تغيير الوضع القائم الذي أخذ الربيع العربي يُحدثه سيؤثر على حضور إيران الإقليمي.
ومن هنا كان لا بد من اتخاذ جملة من الإجراءات للاستجابة للتحدي إن لم يكن التهديد الجديد. أولا: تخفيف حدة الاحتقان الداخلي الإيراني الذي أحدثته رئاسة محمود أحمدي نجاد عبر تنظيم انتخابات رئاسية فيها قدرٌ أكبر من المشاركة وأقل قدر من تدخل النظام السياسي في نتائجها.
ثانيا: تشكيل جبهة موحدة بين مؤسساتِ صنع القرار، تتبنى الانفتاح فيما يتعلق بالبرنامج النووي وفتح باب حوار جدي للوصول إلى صفقة ولو كانت قصيرة الأمد. وثالثا التحول من سياسةِ القوة الناعمة نحو استخدام سياسة التدخل العسكري -المحدود أحيانا أو عبر حلفاء مثل حزب الله- متى ما كان التقييم الإيراني أن مصالح الجمهورية والمتحالفين معها في خطر.
في ظل هذه الإستراتيجية كان تحرك إيران وحزب الله في سوريا والعراق، وهو ذاته السياق الذي جعلها تعتقد أن ما حصل في اليمن نجاح لسياستها الخارجية. المُلفت للانتباه أن هذا التُمدد لا يتم الحديث عنه إلا عبر المؤسستين الدينية والعسكرية في موقف لافت للانتباه لكنه قابل للتفسير، ذلك أن هاتين المؤسستين كانتا منذ قيام الجمهورية الإسلامية أحد أهم أدواتِ السياسة الخارجية الإيرانية الفاعلة.
إن قدرة "العنقاء الإيرانية" على التكيف مع التطورات المتسارعة والمفاجئة والتحرك بين مربعي الأيديولوجيا والمصالح يجعلانها تبدو في موقع من يحقق الانتصارات. هذا من جانب، أما من الجانب الآخر والذي ينبغي قراءته فهو حال الدولة العربية ما بعد الاستعمار والعوامل الكامنة وراء بؤس المشهد السياسي العربي طوال أكثر من قرن من الزمان، بؤس يمكن رؤية آثاره بشكل أكثر دقة بمقارنة السياسة وردود الأفعال الإيرانية نحو تركيا جارها وجار العرب في المشرق.