يبدو أننا مسلمون في النهاية، فلا الكويت عراقية ولا العراق أصلاً ولا فرعاً. الإسلام كما يبدو هو كل شيء. هذه قصة مثيرة حقاً. يفكر كثيرون بدولة أكبر حتى لا تعود الطائرات الأميركية كل يوم تقصف وتحتل هذه الأمة الممزقة. ولماذا لا يكون العلم الوطني وثناً؟ ولماذا لا تكون الوطنية وهماً؟ ولماذا لا تكون الحدود هي حدود الله؟ ما هو المانع؟
لو كانت هناك وطنية لما دخل السيستاني العراق وعمره واحد وعشرون سنة، ليصبح أهم مرجع روحي وسياسي عراقي باعتراف الغرب والحكومات العربية. أية وطنية هذه بصور الخميني وخامنئي على جبهة بغداد المهزومة؟
ربما نحن واهمون. لا نستطيع القضاء على الهوية الإسلامية بالراقصات ومشاعر النقص، خصوصاً إذا كانت هناك حاجة للتضامن، إرادة البقاء تفرض نفسها. ومن ناحية ماركسية مشروع الأمة لا يحدث من فوق، لا يمكن صناعة أمة بأردوغان والإخوان. الثورة من فوق عملية فاشلة. الثورة تبدأ من الأسفل حيث تتشكل الأمة ككرة الثلج التي تتدحرج وتكبر. هكذا تنفجر الأمم في علم التاريخ.
ظهور أمة شيعية بقيادة الخميني أدى بعد ثلاثين سنة إلى سقوط الأمة العربية باحتلال بغداد من قبل إيران وأميركا. ذلك الاحتلال الذي كان بمثابة صداقة عجيبة بين السيستاني وبول بريمر، وخلال عشر سنوات من ذلك الزواج الشهواني على الجثث تم قمع السنة بفرق الموت، وتهجيرهم من العراق.
ومنذ عام 2011 لحق الشعب السني في سوريا بالمأساة على يد صفوية خالصة، شارك في ذبح سوريا شيعة العراق ولبنان وطبعا الإيرانيون لحماية نظام "علوي "صديق. الذي حدث أننا أمام قمع مشترك ساهم خلال سنوات قليلة بانفجار "أمة جديدة "، هي الأمة السنية التي أفاقت على نفسها وهي تنزف، نزيف العراقيات اللائي أنجبن سفاحاً في سجون المالكي السرية. لقد ساهم ثلاثة ملايين مهاجر عراقي جنبا إلى جنب مع سبعة ملايين مهاجر سوري في إشعال المساجد حول العالم بلغة جديدة تماماً، هي لغة الأمة السنية النازفة.
هذا الوعي الجديد أزاح تنظيم القاعدة من المشهد لأنه منظمة وليس دولة، فالقاعدة تشكلت وفيها نواقص كبيرة بسبب مساهمة أميركا في تشكيلها لحرب الإتحاد السوڤيتي بأفغانستان. الدولة الإسلامية تختلف عن القاعدة في ثلاثة أمور جوهرية، وهي استعدادها لمهاجمة إيران، والسعي لبناء دولة، وعدم مهاجمة أهداف أجنبية خارج محيطها.
الدولة الإسلامية أزاحت أيضا الإخوان والحزب الإسلامي المتحالف مع الصفويين لأنهم وكلاء لتركيا في النهاية وليسوا أمة. بم يتحدث رئيس البرلمان الإخواني سليم الجبوري مثلا مع شامخاني مثلا في لقائه الأخير؟
المؤكد يجري الحديث عن القرآن الواحد، والنبي الواحد، ولا يوجد فرق. وأن الإمام الخميني أغلق سفارة إسرائيل وقدمها للفلسطينيين، وأمر بترجمة وطبع جميع كتب سيد قطب وتوزيعها في الجمهورية الإسلامية منذ الشهر الأول لوصوله طهران، وأن الخامنئي أول مَن تأثر وترجم كتابا لسيد قطب، وأن الثورة الإسلامية الإيرانية استلهمت أفكارها من الإخوان المسلمين، وأن الجمهورية الإسلامية تدعم حماس في الوقت الذي تخلى عنها الجميع، وأن الإخوان وإيران في خندق واحد ضد العدو الصهيوني المشترك.
لهذا تصر إيران على اجتثاث البعث والسلفيين ودعم الإخوان حصرا كممثل شرعي مقبول للسنة والباقي مشعانيون ومرتزقة أمثال ابراهيم الصميدعي الذي يقول "يأتي زمان القابض على نوري المالكي كالقابض على جمرة " من الطبيعي أن يتجاوز الصراع الإخوان وسنة المالكي ويتحول خطابهم إلى لغو طلق.
كما أزاحت الدولة الإسلامية العلمانيين لأنهم أخفقوا إخفاقاً شديداً وذبحهم الغرب بيديه. فمن الذي أسقط مشروع محمد علي باشا العلماني التنويري الذي كان مبهورا بالتقدم الصناعي الغربي؟ أليس الغرب؟ ومن الذي أسقط جمال عبد الناصر العلماني؟ أليس الغرب؟ ومن الذي أسقط صدام حسين البعثي؟ أليس الغرب؟ ومن الذي أسقط القذافي القومي؟ أليس الغرب؟ ومَن الذي قتل علماءنا العراقيين وطاردهم حول العالم؟ أليس الغرب؟ ومَن الذي ضرب مفاعل تموز العراقي؟ أليس إسرائيل بدعم الغرب؟ ومَن الذي أجهض كل عمليات التنمية والصناعة والنهضة في الدول المسلمة؟ أليس الغرب؟
ربما هذه الغطرسة الغربية أدت إلى التفكير بنوع جديد من الجغرافيا والوحدة الإسلامية، بحيث لا يتمكن الغرب من ضربنا بالصواريخ أو تجويعنا بالحصار كل يوم. نحن في الحقيقة أمام حركة سنية متطرفة تظهر باسم الدولة الإسلامية. لا شكل لها، ولا حدود، وتتمدد بالدم والتضحيات والإنتحاريين، حركة تشبه الواقع الذي خرجت منه. واقع المليون قتيل سوري وعراقي الذين سقطوا على يد إيران وأميركا.
لقد منحنا الغرب دولة وهمية فصنعنا لها علما ونشيدا وطنيا، ثم ربينا أطفالنا على تقديسها. المشكلة لا الغرب ولا الصفويون احترموها، بل قاموا باحتلالنا، وملاحقتنا في بيوتنا، وطردنا من تلك الحدود. فلماذا لا نبصر الحقيقة وهي أن تلك الحدود كانت مجرد دمية منحها الغرب لنا للعب فترة ثم انتزعها منا. وإلا كيف يتفقون مع الإيراني السيستاني بشأن العراق؟ وكيف ينتزعون كردستان من تلك الحدود؟ أليس الأجدى بأن يفهم ابن الموصل بأن حلب أقرب إليه بكثير من النجف؟ وربما في المستقبل لن يكون هناك درس دين ودرس آخر للوطنية.
الشيعة لم يحكموا العراق بحزب وطني عراقي بل حكموا باسم الأمة الصفوية، ولهذا ظهرت بعد عشر سنوات من التخبط ولأول مرة مقاومة باسم الأمة السنية كلها. لأن السنة تركوا الإسلام للشيعة فأصبحوا هم الأمة وأصبح السنة مجرد أقلية. السنة ثلث الكرة الأرضية فكيف أصبحوا أقلية؟ بالحدود والوطنية.
نحن أمام وعي بوجود "أمة جديدة" لم نكن نعرفها من قبل. أمة أنجبتها التضحيات والخيانات وشراسة الأعداء. مصلحة، وبقاء، وعقيدة. أنا لا أجزم بأن هذه النهضة العنيفة المسلحة ستنجح بل ربما تنكفئ سريعاً، ومن الطبيعي أن يحاربها الغرب بقوة فهي حركة متطرفة جاءت كردة فعل ضد جرائم ارتكبتها أميركا وإيران، كذلك من حق الحكومات العربية أن تحاربها فهذا صراع بقاء ومغامرة مجهولة.
التاريخ يعتمد على حسن الطالع والروح الغامض للأمم. اجتياح روسيا لأوكرانيا والغرب يفكر باجتثاث الإرهابيين كان فألاً حسنا عليهم، ولا نعلم الغيب. الحق يقول بأن السنة لا يمكنهم تقديس حدود لم يحترمها الشيعة ولا الأكراد وتحولت إلى مسالخ لهم.
المطلوب الآن اختراع أمم يمكن احتلالها، وقصفها، واغتصاب رجالها في سجن أبو غريب، وسرقة ثرواتها دون أن تشكل أدنى خطر أو تهديد للشعوب التي تقوم بهذا العدوان، بل على كتاب الأمم المقهورة المشاركة في إبداع أفكار من شأنها أن تساهم في طمأنة الأمم القوية "المتحضرة" والتخفيف من عذاب ضميرها.
أسعد البصري - ميدل ايست أونلاين