تجلّى الخوف من إيران واضحاً في مقالات بعض الكتاب في الصحافة السعودية، بعد الدعوة التي قدمها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل إلى نظيره الإيراني، ومنهم من اعتبرها انبراءة ديبلوماسية في مؤتمر صحافي، لا يجب أخذها على محمل الجد، وليست إلا «فضة مجلس» كما يقول المثل الشعبي. البعض الآخر تفنّن في لون وشكل التخويف، وصوَّر إيران «بعبعاً» رباعي الأبعاد.
البعد الأول تدخّل إيران في الشؤون الداخلية للدول العربية. والثاني التهييج الطائفي وإشعال الفتنة بين الشيعة والسنة، والثالث التوجه الإيراني نحو هيمنة سياسية في المنطقة، أما البعد الرابع فتزايد القوة العسكرية الإيرانية، والملف النووي الإيراني الغامض. وفي رأينا أن الخوف على مملكة السعودية العربية السنية من جمهورية إيران الفارسية الشيعية غير مبرر سياسياً أو استراتيجياً، ولا أساس له من الواقع، بل هو وهمٌ تم تسويقه بشكل أو بآخر، فبات «بعبعاً» سياسياً، والخشية من وجهة نظرنا أن يتطور ذلك الوهم إلى «نبوءة تحقق ذاتها»، فيصبح عقبة كؤوداً أمام علاقات حسن جوار بين البلدين، ما لم يسع حكماء السياسة إلى تفتيت وتذويب وكشف ذلك الوهم. نتذكر أن السعودية تعرضت إلى ثلاث موجات من الأخطار الوجودية، جاءت جميعها من العنصر السني - العربي، وليس الشيعي - الفارسي. الموجة الأولى في الستينات، عندما قام عبدالناصر في غمرة نشوته القومجية بقصف جنوب السعودية بالطائرات، وتهديد أمنها ووجودها ضمن محاولاته إسقاط الملكيات الخليجية للوصول إلى النفط. والموجة الثانية في التسعينات عندما قام صدام حسين بقصف السعودية بالصواريخ، وتهديد وجودها بعد احتلاله للكويت. أما الثالثة فتتمثل في التهديد الإرهابي والسيارات المفخخة داخل السعودية من منظمات وجماعات دينية متطرفة محسوبة على السُنة، ولذا فإن الرهاب السياسي والخوف من إيران لا أرضية صلبة له في منطق التحليل السياسي السليم. الثورة الخمينية الإسلامية في إيران ككل الثورات، لها عناصر واجبة الاستكمال للوصول إلى النضج المطلوب، والبدء في التعامل بشيء من العقلانية السياسية، ويمكن تشبيهها بالثورة الناصرية العربية في مصر، ومن عناصر التشابه بين الثورتين إلي حد التطابق: طرد الملكية، والقاعدة الشعبية، واستعداء الغرب، والحرب المحدودة، وتصدير الثورة، واعتناق الآيديولوجيا، ودعم الأقليات، وتهديد الدول المجاورة. ولذا فإن عودة العلاقة العتيدة الجديدة بين إيران والغرب، وسقوط أطروحة «الشيطان الأكبر» عن الولايات المتحدة يمكن اعتبارهما آخر عنصرين في تسويق الثورة وتثبيتها، ما يظهر حاجة إيران الماسة إلى تفاهمات عقلانية وحقيقية وجادة مع دول العالم، وفي مقدمها السعودية. في الطريق إلى تلك التفاهمات توجد ملفات عاجلة ظهرت خلال حقبة الاستقطاب بين الدولتين، وأهمها العمل على تقوية مفهوم الدولة في منطقة الشرق الأوسط التي أصابها الوهن جراء فوضى «الربيع العربي»، ما حوّل بعضها إلى دول فاشلة مثل اليمن وليبيا، وأصبحتا مرتعاً وملاذاً لوجود المنظمات الإرهابية ونموها، واستمرار تزايد العنف وتصديره. في المقابل هناك ثلاث دول عربية فاعلة وأساسية في الشرق الأوسط، وهي العراق وسورية ومصر، وهي تعاني الإرهاب، وتعيش في الوقت ذاته انتخابات، ويهم السعودية وإيران تنسيق الجهود لدعم نتائج تلك الانتخابات، ليتمكن رؤساء تك الدول من العمل على تقوية دولهم ومحاربة الإرهاب وتأمين مجتمعاتهم. يبقى ملف لبنان مشروعاً قائماً بذاته، وتتطلب المرحلة وجود رئيس قوي ومنطقي وفاعل، لا يفترض فيه أن يكون محبوباً و متعاطفاً مع أي من الدولتين، بقدر أهمية أن يفرض احترامه على الداخل والخارج، ويكون عوناً للاستقرار بدلاً من المهادنة أو «الجعجعة» السياسية. أخيراً، جاءت دعوة وزير الخارجية في التوقيت المناسب بعد استكمال العناصر المطلوبة للنجاح، كما تمثل تطوراً نوعياً يتسق مع المتغيرات والتحولات الدولية، ويثبت ديناميكية السياسة السعودية، وقدرتها على مراجعة المواقف والتحالفات الإقليمية والدولية، ما يستلزم بالضرورة تنسيق استراتيجية الدولتين لمزيد من الاستقرار في المنطقة، والتفاهم حول القضايا الإقليمية والدولية كافة، واعتراف كل منهما بقوة ونفوذ الطرف الآخر، وتقاسم الحمل السياسي بعيداً من الأوهام والخوف المصطنع. طراد بن سعيد العمري - صحيفة الحياة
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video