بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نشأت وترعرعت الإمبراطوريات في العالم، ونمت واتسعت حتى قيل عن الإمبراطورية البريطانية أن ممتلكاتها من المستعمرات لا تغيب عنها الشمس.. ولكنها غابت ولم تعد بريطانيا العظمى تتحدث عن رغبتها في عودة امبراطوريتها البائدة.. وكذا الأمر عن الإمبراطوريات في الزمن السحيق ومنها الإمبراطورية الرومانية المقدسة.. كلها تراجعت واصيبت بضمور القوة وعادت إلى حجمها، فيما تحلل بعضها الآخر واندثر. بريطانيا التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس لم تفكر بعودة امبراطوريتها في ظل مقاسات هذا العصر.. ولكن النظام الفارسي الصفوي يفكر بعودة امبراطورته الفارسية الإستعمارية بكل صفاقة وقد اغرته أوهام القوة وتشجيع الإمبريالية الأمريكية والصهيونية.. متناسياً أن عصر الإمبراطوريات قد ولى. ولم يكتف القادة الإيرانيون الصفويون بالإعلان عن نياتهم بصورة غير مباشرة تحسباً لردود الأفعال، إنما باتوا يعلنون ما يفكرون ويخططون خلافاً لنهج (التقيه) الذي يمارسونه في الفقه وفي السياسة.. والغريب في الأمر، أن المتحدث الذي أفصح عن نيات القيادة الصفوية الفارسية قريب جداً من المرشد الأعلى (علي خامنئي) وبالصفة الإستشارية التي ظهر فيها وهو يتحدث في الخطوط الإستراتيجية للدولة وأهدافها التعبوية.. فهو أمر غريب لا يظهر في عالم السياسات الدولية التي ترسم إستراتيجياتها بسرية ولا تفصح عنها لتقول (سأقفز من هنا وسأصل إلى هناك لكي أبلغ البعد الإستراتيجي كذا، وأنا عازمة على إكمال نقلتي الجيو- إستراتيجية في المكان المحدد ومن النقطة المحددة).!! منطق الإفصاح هذا يؤشر الآتي : أولا- إما أن هذا المتحدث هو غبي مدفوع بهاجس الغطرسة، وليست لديه حسابات ردود الأفعال الضارة بنظامه السياسي. ثانياً- أو أنه ليس غبياً، لأن من يحتل مستشار المرشد الأعلى للشؤون العسكرية ربما لم يكن غبياً.. إنما قد تلقى أمراً بالكشف عن نيات النظام الفارسي، لغايات سنتحدث عنها في ما بعد. ثالثاُ- أو أن مثل هذه التصريحات تعبر عن صراعات داخلية عنيفة على الرغم من محاولات القيادة الصفوية الظهور بمظهر (اللين الودود المتسامح المتعاون الذي يبحث عن حلول من أجل السلام وإن غاياته ليست كما يعتقدها الآخرون، وإنها تنشد العمل المشترك..إلخ، من المسكنة المغلفة بالتقيه.!! وصراعات الداخل الإيراني، هي في حقيقتها لعبة مفضوحة بين (حمائم وصقور)، وهي اللعبة التي بنيت عليها إستراتيجية التعامل مع الخارج.. فروحاني الذي جيئ به لإنقاذ الإقتصاد الإيراني المنهار الذي كان يؤذن بسقوط النظام، لم يكن صادقاً في تعامله اللين الأملس وابتسامته الصفراء التي تضمر المكر والخداع، وهو يمثل (الحمائم) من جهة.. والحرس الثوري الإيراني، وتصريحات مستشار المرشد الإيراني "علي خامنئي" للشؤون العسكرية والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني الجنرال "يحيى رحيم صفوي" يوم 3/5/2014، الذي يمثل (الصفور) من جهة أخرى، والتي ذكر فيها (.. أن منطقة - شلمجة - الحدودية مع العراق لا تمثل الحدود الدفاعية لإيران، إنما حدودنا الدفاعية هي جنوب لبنان، ويشكل البحر الأبيض المتوسط بالقرب من إسرائيل، العمق الإستراتيجي لإيران..) واضاف (.. نلاحظ اليوم امتداد النفوذ الإيراني حتى البحر الأبيض المتوسط للمرة الثالثة في الإمبراطورية الإيرانية، التي يعود تاريخها إلى 2500 عام) وأضاف إيضاً (.. تكتسب سوريا أهمية لإيران، لكونها جسراً للتواصل بين دول شمال أفريقيا وآسيا.).!! دعونا نتناول بالتحليل مفردات هذا الكلام الخطير من كل أوجهه السياسية والإستراتيجية والعسكرية، فماذا تستهدف الدولة الإيرانية من اطلاق مثل هذه التصريحات؟ وهل هي للإستهلاك المحلي؟ أم أنها تعكس حالة الصراع الدائر حالياً في الساحة الإيرانية بين العسكر المتشدد الذي يرفض سياسة روحاني، الذي هو الآخر يرفض سياقات العسكر وتصرفاتهم التي (تخربط عليه الغزل) كما يقال، وتضع العصي في عجلة روحاني المخادعة على الرغم من أنهم يرونها في ثوب التقيه كمنهج، ومع ذلك يشهرون رفضهم ويعلنون غطرستهم : 1- حدود إيران مع العراق، لا تمثل حدود إيران (الدفاعية) : هذا الرأي يفصح أن العراق كله، وليس حدوده، باتت جزءاً من مسرح عمليات (دفاعية).. وهو رأي مخادع، لأن إيران ليست في حالة حرب حتى تكون الحدود دفاعية أو مسرحاً لعمليات دفاعية.. إذن، إن هذا المنطق ينطوي على اعتراف بالنفوذ الإيراني الذي استشرى بشكل خطير.. وهنا نقول، أين السيادة والإستقلال العراقي، وما هو موقف حكومة العملاء من هذا التصريح المذل والمخزي.؟ 2- حدود إيران (الدفاعية) هي جنوب لبنان : وهنا، يلغي هذا الصفوي سيادة لبنان، وكأن لبنان ليست دولة ذات سيادة من شمالها حتى جنوبها، ولا ندري كيف ستتصرف الحكومة اللبنانية حيال هذا المنطق الإيراني الخطير.. ومرة ثانية، جنوب لبنان منطقة دفاعية إيرانية أمام من؟ وإيران ليست في حرب مع أحد؟ لا مع (إسرائيل) ولا مع امريكا ولا مع العرب.. كما أن ذراعها الطائفي حزب الله لم تعد له قيمة في الوطن العربي بعد سقطت كل براقعه في المقاومة والممانعة المهزلة. 3- البحر الأبيض المتوسط يشكل عمقاً إستراتيجياً لإيران : وهذا المنطق قد ينطوي على توافق إستراتيجي إيراني- روسي يجعل من سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية منطقة نفوذ مشتركة.. إيران تستفيد من الدعم الروسي، وروسيا تستفيد من الدعم الإيراني لموقع القدم الروسية في ميناء طرطوس، على الرغم من اختيار روسيا احد المواقع في قبرص بدلاً منه. ومع كل هذا، فأن مثل هذا النفوذ المراد تعاظمه في البحر الأبيض المتوسط ليس سهلاً. 4- النفوذ الإيراني الراهن هو الثالث، كما يقول الجنرال (الصفوي)، الذي حققته الإمبراطورية الفارسية منذ 2500 عام : فإذا كان هذا الصفوي المسموم بنتانة الكهوف السحيقة لإمبراطورية إستعمارية بائدة، يرى عودة هذه الإمبراطورية عن طريق زحف ديدان الطائفية القذرة، فأن هذا الحلم المريض في عصر يقظة الشعوب المحبة للحرية والإنفتاح والديمقراطية الشعبية والإستقلال الوطني، لن يتحقق، وسوف ترغم هذه الديدان على التراجع إلى كهوفها النتنة وأسيادها يتجرعون السم الزعاف.. لأن البحر الأبيض المتوسط ليست مرتعاً لديدان قم وطهران، إنما هو بحر دولي مفتوح للجميع دون وصاية من أحد ومكفول بالقوانين.. وإذا كانت لدى إيران القدرة والقوة فلتدخل باسطولها الحربي بحر قزوين وسوف ترى ماذا سيحدث.؟! 5- نفوذ إيران في سوريا، هو جَعْلِها جسراً للعبور إلى الشمال الأفريقي، وبذا يتحقق التواصل بين القارتين الآسيوية والأفريقية : خيال خصب، وطموح فاق كل علماء الجيوبلتيكس في مسائل الربط بين القارات.. والهدف هو الهيمنة على الشمال الأفريقي بعد أن تكتمل الهيمنة الإيرانية على المشرق العربي.. هل ينفع هذا الكلام؟ والغريب في الأمر انه صادر عن مستشار المرشد الإيراني "علي خامنئي" للشؤون العسكرية والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني.. فهو ليس موظفاً عادياً أو رئيس تحرير صحيف أو غير ذلك.. فهل أن ما قاله من باب التخريف، أم هي الأفكار التي تدور في عقلية المرشد أم أنها إيحاء منه؟ وهل هي جزء من صراعات الداخل وحسب سياسة توزيع الأدوار المعروفة؟ أم هي تصب في باب إبراز العضلات في زمن فراغات الأمن الإقليمية والدولية؟! 5/5/2014 د. أبا الحكم - شبكة البصرة الثلاثاء 7 رجب 1435 / 6 آيار 2014
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video