زعم الشيعة أن عثمان غدر بالمصريّين الذين طلبوا منه أن يعزل لهم عبد الله بن أبي السرح، فأظهر موافقتهم، وأخبرهم أنه ولى عليهم محمد بن أبي بكر، وأرسل رسوله سراً إلى والي مصر يأمره أن يستمر على ولايته، وأن يقطع أيدي المصريّين إذا عادوا إلى مصر، وأن يقتل محمد بن أبي بكر
ومن مطاعنهم على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون: إنه ولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح[1] مصر حتى تظلم منه أهلها، وكاتبه أن يستمر على ولايته سراً خلاف ما كتب إليه جهراً، وأمر بقتل محمد بن أبي بكر[2]. والرد على هذا الإفك: أنه من الكذب على ذي النورين، وقد حلف أنه لم يكتب شيئاً من ذلك[3] وهو الصادق البار بلا يمين، وغاية ما قيل: إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا أن يسلم إليهم مروان ليقتلوه فامتنع، فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد فعل الواجب، وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز، وإن كان قتله واجباً فذا من موارد الاجتهاد، فإنه لم يثبت لـ مروان ذنب يوجب قتله شرعاً، فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل. وأما قولهم أنه أمر بقتل محمد بن أبي بكر، فهذا من الكذب المعلوم على عثمان، وكل ذي علم بحال عثمان وإنصاف له يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر، ولا أمثاله، ولا عرف منه قط أنه قتل أحداً من هذا الضرب، وقد سعوا في قتله ودخل عليه محمد فيمن دخل وهو لا يأمر بقتالهم، دفعاً عن نفسه فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم..... بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر هو أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان؛ لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب عليه سياسة رعيته، وقتل من لا يدفع شره إلا بقتله، وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض، ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد، وغايتهم أن يكونوا ظلموا في بعض الأمور، وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه، بل ولا يقيم الحد، وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر ولا هو أشهر بالعلم والدين منه، بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان وله قول مع أهل الفتيا، ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند الناس[4]. فـ مروان له منزلة عظيمة عند الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من أئمة الدين. قال أبو بكر بن العربي: مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين، أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعدي روى عنه[5]، وأما التابعون فأصحابه في السن، وإن جازهم باسم الصحبة في أحد القولين[6]، وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته والتلفت إلى فتواه والانقياد إلى روايته، وأما الفقهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم[7]. وما دام مروان بن الحكم تبوأ هذه المكانة، فيستبعد أن يكون زور كتاباً على عثمان رضي الله عنه إلى ابن أبي سرح ليقتل البغاة ومحمد بن أبي بكر، وقد رد عثمان رضي الله عنه بنفسه على البغاة فيما نسبوه إليه من أنه كتب إلى واليه بمصر يأمره بقتلهم وقتل محمد بن أبي بكر، فلما رجع البغاة من طريقهم وكانوا قد اقتنعوا ببيان عثمان لهم فيما ادعوه عليه مما يعتقدونه مظالم ومناكير دخلوا عليه: فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا عليَّ رجلين من المسلمين أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمليت ولا علمت، ثم قال: وقد تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل وقد ينقش الخاتم على الخاتم[8]، ولا يستبعد أن تزوير الكتب في إثارة البغي على الخليفة عثمان رضي الله عنه كان من أسلحة البغاة استعملوه من كل وجه وفي جميع الأحوال، فقد كذبوا أنهم تلقوا رسائل من الصحابة أرسلوها إلى الآفاق للقيام بالثورة على عثمان. قال الحافظ ابن كثير: وروى ابن جرير من طريق محمد بن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار أن الذي كان معه هذه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر - أبو الأعور السلمي - على جمل لـ عثمان، وذكر ابن جرير من هذا الطريق أن الصحابة كتبوا إلى الآفاق من المدينة يأمرون الناس بالقدوم على عثمان ليقاتلوه، ثم قال مبيناً حكمه على مثل هاتين الروايتين: وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم كما كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج كتباً مزورة عليهم أنكروها، وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان أيضاً، فإنه لم يأمر به ولم يعلم به أيضاً[9]. فإذا كان أولئك البغاة المفسدون زوروا رسائل باسم الصحابة جميعاً فلا يشك عاقل أنهم من وراء تزوير الكتاب على عثمان، وعلى مروان. قال محب الدين الخطيب في تعليقه على كتاب العواصم من القواصم لـ ابن العربي[10]: وقد ثبت أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة عند رحيل الثوار عنها مقتنعين بأجوبة عثمان وحججه، وفي مدة تخلف الأشتر وحكيم بن جبلة تم تدبير الكتاب وحامله للتذرع بهما في تجديد الفتنة ورد الثوار، ولم يكن لأحد غير الأشتر وأصحابه مصلحة في تجديد الفتنة. وبهذا الرد يبطل تعلق الرافضة بالطعن على عثمان بالكتاب المزعوم الذي يقولون: إنه وجد مع راكب أو مع غلامه إلى ابن أبي سرح عامله بـ مصر. ومما يؤكد أن عثمان ومروان لم يكونا قد كتبا الكتاب: أسلوب حامل الكتاب؛ حيث كان يقترب منهم ولا يتعرض لهم، ثم يفارقهم، ويكرر ذلك بغرض لفت أنظارهم إليه، وإثارة شكوكهم فيه[11]، ولا يعقل أن يكون عثمان رضي الله عنه أو مروان بن الحكم أو أي إنسان يتصل بهما يأمر الغلام بأن يصنع هذا الصنيع؛ إذا لا مصلحة في عودة الفتنة إلا للغوغاء، فدل على أن الكتاب من صنيع كبارهم. 4- ومن الأدلة على أن هذا الكتاب كان مفتعلاً على عثمان: إقرار الغوغاء أنفسهم بذلك لما سألهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن سبب عودتهم جميعاً؛ الكوفيين والبصريين والمصريين، مع أن الكتاب كان خاصاً بالمصريين، وقوافلهم كانت متباعدة عن بعضها البعض، وبينها وبين المدينة مراحل، وقد قال لهم علي رضي الله عنه: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمر أبرم بـ المدينة، قالوا: فضعوه على ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا[12]. فقولهم: فضعوه على ما شئتم: تسليم منهم بأن قصة الكتاب مفتعلة، وأن غرضهم الأول والأخير هو خلع أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه. وهذه الأمور بمجموعها تدل على أن عثمان رضي الله عنه بريء مما نسب إليه من مكاتبة ابن أبي السرح سراً ليسفك دماء الغوغاء من المصريين، أو يسفك دم محمد بن أبي بكر، ويدل على أن الغوغاء قد افتروا عليه هذا الكتاب ليتخذوه ذريعة لقتله، ثم تبعهم على ذلك الافتراء الشيعة الإثنا عشرية.
[1] هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري من بني عامر بن لؤي من قريش فاتح إفريقية. وفارس بني عامر من أبطال الصحابة، أسلم قبل فتح مكة وهو من أهلها وكان من كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر، وولي مصر سنة 25هـ، بعد عمرو بن العاص، فاستمر نحو 12 عاماً زحف خلالها إلى إفريقية بجيش فيه الحسن والحسين ابني علي وعبد الله بن عباس وعقبة بن نافع، ولحق بهم عبد الله بن الزبير فافتتح ما بين طرابلس الغرب إلى طنجة ودانت له إفريقية كلها، وتوفي سنة سبع وثلاثين هجرية. انظر ترجمته في أسد الغابة: 3/ 173، البداية والنهاية: 7/ 340، الإصابة: 2/ 308-309، الأعلام: 4/ 220-221. [2] انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/ 173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/ 60-61. [3] انظر تاريخ الأمم والملوك، للطبري: 4/ 356. [4] منهاج السنة: 3/ 188-189، وانظر المنتقى، ص:392. [5] انظر الإصابة لابن حجر: 3/ 455. [6] وفي مقدمة من روى عنه من كبار التابعين زين العابدين علي بن الحسين السبط، نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: 2/ 123، ونص ابن حجر على كثير ممن روى عنه من التابعين، انظر الإصابة: 3/ 455. [7] العواصم من القواصم، ص:89-90. [8] تاريخ الأمم والملوك: 4/ 356، وانظر العواصم من القواصم، ص:109-110. [9] البداية والنهاية: 7/ 192. [10] العواصم من القواصم: ص:109 [11] العواصم من القواصم لابن العربي ص:133 [12] تاريخ الطبري 5/ 105
To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video