عدد الرضعات التي تحرم
يذكر التيجاني في هذا المبحث قصة طويلة (1) ملخصها أن عشيرتان تكتشفان أن أحد أفرادها تزوج امرأة من العشيرة الأخرى قد أرضعتهما مرضعة واحدة؟ فأحدث ذلك الأمر صدمة، وبحث الأهالي عن حلٍّ لهذه المصيبة، فذهبوا إلى الكثير من الفقهاء الذين أفتوهم بحرمة هذا الزواج حتى وقعوا على (العلاّمة) التيجاني، الذي حل هذا الاشكال بفتوى لعليّ بن أبي طالب زعم فيها أن علياً يحرّم الزواج إذا بلغت الرضاعة خمس عشرة رضعة!؟ وبعدها تعرض لمحاكمة القضاة بسبب هذه الفتوى، ثم أظهر لهم الأدلة على صدق دعواه من كتب الشيعة، ومن كتب السنة أيضاً! فحل هذه المعضلة، وخرج منها ظافراً منتصراً، ودون الخوض في صدق هذه القصة أوكذبها، أقول:
1ـ اختلف فقهاء أهل السنة في عدد الرضعات التي تحرّم ذلك فقالت طائفة، التحريم بخمس رضعات وهوقول الشافعي ورواية عن أحمد وفتوى عائشة وعبد الله بن الزبير واسحاق وابن مسعود وعطاء وطاووس، وقسم حرّم قليل الرضاع وكثيره ولم يفرّق بينهما، وهوقول عليّ بن أبي طالب (!) وابن عباس وابن المسيب والحسن ومكحول والزهري وقتادة والحكم وحماد ومالك والأوزاعي والثوري والليث، وقسم يرى التحريم إلا بثلاث رضعات وهووقل أبوثور وأبوعبيد وداود ورواية عن وغيرهم (2)، والصحيح إن شاء الله أنه لا يحرم الرضاع إلا فوق خمس رضعات لما ثبت في الصحيح عن عائشة أنها قالت ((كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يُحِّرمنَ، ثم نُسخْنَ بخمس معلومات، فتُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهُنَّ فيما يُقرأُ من القرآن)) (3).
__________
(1) ثم اهتديت ص (176ـ 184) مبحث هدى الحق.
(2) راجع في ذلك المغني جـ11 ص (31 ـ 312) ومسلم مع الشرح جـ1 ص (44 ـ 46) وبداية المجتهد لابن رشد جـ3 ص (64 ـ 66).
(3) مسلم مع الشرح كتاب الرضاع ـ باب ـ التحريم بخمس رضعات برقم (1452).
2ـ أما ادعاؤه أن الإمام مالك يفتي بما يلائم أهواء السلطة الحاكمة (1) فهذا كذب فلم يأت بدليل واحد على ذلك وأنّى له ذلك، ولوقلد أحد الإمام مالك فلا يعتبر هذا قدح فيه لأنه لم يأمر أحداً بتقليده وثبت عنه أنه قال ((إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه)) (2).
__________
(1) ثم اهتديت ص (178).
(2) معنى قول الإمام ص (15) من ضمن مجموعة الرسائل المنيرية جـ2.
3ـ أما ادعاؤه أن علياً يحرم الزواج إذا بلغت الرضاعة خمس عشرة رضعة (1) فكذب على عليِّ، لأن الثابت أن علياً يري أن قليل الرضاع مثل كثيره في التحريم، وهذا القول الشاذ لم يقل به احد من أهل العلم إطلاقاً، ولكن الرافضة الاثني عشرية تخبّطوا في هذا تخبّطاً عجيباً، فيروي الطوسي في كتابه (تهذيب الأحكام) ـ وهوأحد الكتب الأربعة التي تمثل أصول وفروع مذهب الاثني عشرية ـ روايات متناقضة فيروي جواز العشر رضعات، فعن عبيد بن زرارة قال ((قلت لأبي عبد الله (ع): إنا أهل بيت كثير، فربما كان الفرح والحزن يجتمع فيه الرجال والنساء، فربما استحيت المرأة أن تكشف رأسها عند الرجل الذي بينها وبينه الرضاع، وربما استحيا الرجل أن ينظر إلى ذلك، فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال: ما أنبت اللحم والدم، فقلت: فما الذي يُنبت اللحم والدم؟ فقال: كان يقال: عشرُ رضعات، قلت: فهل يحرم بعشر رضعات؟ فقال: دع ذا، وقال: ما يحرم من النسب فهويحرم من الرضاع)) (2)، ويروى عن أبي عبد الله (ع) قال ((لا يحرم من الرضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم، فأما الرضعة والرضعتان والثلاث ـ حتى بلغ عشراً ـ إذا كنَّ متفرقات فلا بأس)) (3)، ثم يروي أن العشر لا تحرم، بل الخمس عشر لا تحرم أيضاً، فعن أبي عبد الله قال ((سمعته يقول: عشر رضعات لا تحرم)) (4)، ويروى عن عمر بن يزيد قال ((سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: خمس عشرة رضعة لا تحرم)) (5)، ثم يحاول الطوسي التوفيق بين هذه الروايات المتضاربة، فيقول ((فهذه الأخبار كلّها وما في معناها، محمولة على أنه إذا كانت الرضعات متفرقات، فأما إذا كانت متوالية فإنها تحرم، وقد تضمن ذلك الخبر الذي قدمناه وهوخبر هارون بن مسلم، عن أبي
__________
(1) ثم اهتديت ص (179).
(2) تهذيب الأحكام للطوسي جـ7 ص (281) ـ باب ـ ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه.
(3) المصدر السابق جـ8 ص (281).
(4) المصدر السابق جـ8 ص (282).
(5) المصدر السابق.
عبد الله (ع) وهوقوله لمّا ذكر العشر رضعات قال: لا بأس به إذا كنّ متفرقات، فدلّ على أنها كانت متوالية فإنها تحرّم)) (1)، فشيخ الطائفة يقرر أن العشر رضعات المتواليات تحرِّم والتيجاني يقرر أن الخمس عشرة رضعة مشبعات ومتواليات تحرِّم فانظر إلى هذا التضارب والتناقض!؟
4ـ أما قوله أنه فتح البخاري وفيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحرم من الرضعات إلا خمسة فما فوق (2) فكذب لأن البخاري لم يرومثل هذه الرواية إنما الذي روى مثلها هومسلم وقد ذكر الحديث في الفقرة السابقة.
5ـ لقد استشهد التيجاني على صحة زواج الرجل والمرأة في هذه القضية من كتب أهل السنة كمسلم وابن رشد وفتاوي شلتوت، والتي اعتمدها القضاة، فلست أدري ما هي الحجة لشيعته في هذه الحادثة.
6ـ لا أكاد أصدق أنّ كل هؤلاء العلماء والقضاة لم يعرف واحداً منهم أن الأدلة الصحيحة تظهر أن دون الخمس رضعات لا تحرّم الزواج، وعلى كل حال فإن كان هناك جهل يعتري كل هؤلاء الناس! فالسبب بسيط وهوابتعادهم عن منهج أهل السنة والجماعة الذي يوجب اتباع الكتاب والسنة، وليس التقليد المذموم، وهوالمنهج الذي استدل به التيجاني على صدق دعواه عندما استشهد بسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأي عيب أوقدح يصيب أهل السنة بعد ذلك؟!
__________
(1) المصدر السابق.
(2) ثم اهتديت ص (182).
انظر أيضاً :