شبهة توليته يزيد من بعده
عمل معاوية رضي الله عنه جهده من البداية في سبيل إعداد ولده يزيد، وتنشئته التنشئة الصحيحة، ليشب عليها عندما يكبر، فسمح لمطلقته ميسون بنت بحدل الكلبية، وكانت من الأعراب، وكانت من نسب حسيب، ومنها رزق بابنه يزيد - انظر ترجمتها في : تاريخ دمشق لابن عساكر - تراجم النساء - (ص397 - 401) – من أن تتولى تربيته في فترة طفولته، وكان رحمه الله وحيد أبيه، فأحب معاوية رضي الله عنه أن يشب يزيد على حياة الشدة والفصاحة فألحقه بأهل أمه ليتربى على فنون الفروسية، ويتحلى بشمائل النخوة والشهامة والكرم والمروءة، إذ كان البدو أشد تعلقاً بهذه التقاليد.
كما أجبر معاوية ولده يزيد على الإقامة في البادية، وذلك لكي يكتسب قدراً من الفصاحة في اللغة، كما هو حال العرب في ذلك الوقت.
وعندما رجع يزيد من البادية، نشأ وتربى تحت إشراف والده، ونحن نعلم أن معاوية رضي الله عنه كان من رواة الحديث - تهذيب التهذيب لابن حجر (10/ 207) -، فروى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث وبعض أخبار أهل العلم. مثل حديث : من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، وحديث آخر في الوضوء، وروى عنه ابنه خالد وعبد الملك بن مروان، وقد عده أبوزرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة، وهي الطبقة العليا. البداية والنهاية لابن كثير (8/ 226-227).
وقد اختار معاوية دَغْفَل بن حنظلة السدوسي الشيباني (ت65 هـ) انظر ترجمته في : تهذيب التهذيب لابن حجر (3/ 210)، مؤدباً لولده يزيد، وكان دغفل علامة بأنساب العرب، وخاصة نسب قريش، وكذلك عارفاً بآداب اللغة العربية.
هذا مختصر لسيرة يزيد بن معاوية قبل توليه الخلافة..
أما عن فكرة ولاية العهد.. فقد بدأ معاوية رضي الله عنه يفكر فيمن يكون الخليفة من بعده، ففكر معاوية في هذا الأمر ورأى أنه إن لم يستخلف ومات ترجع الفتنة مرة أخرى.
فقام معاوية رضي الله عنه باستشارة أهل الشام في الأمر، فاقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية، فرشح ابنه يزيد، فجاءت الموافقة من مصر وباقي البلاد وأرسل إلى المدينة يستشيرها وإذ به يجد المعارضة من الحسين وابن الزبير، وابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عباس. انظر : تاريخ الإسلام للذهبي – عهد الخلفاء الراشدين – (ص147-152) وسير أعلام النبلاء (3/ 186) والطبري (5/ 303) وتاريخ خليفة (ص213). إلا أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما قد بايعا فيما بعد طوعاً ليزيد.
وكان اعتراض هؤلاء النفر حول تطبيق الفكرة نفسها، لا على يزيد بعينه.
ثم كانت سنة واحد وخمسين هجرية فحج معاوية في الناس وقرأ كتاب الإستخلاف ليزيد على الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : لقد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، وصفحي عنكم وحلمي لما يكون منكم، ويزيد ابن أمير المؤمنين أخوكم وابن عمكم وأحسن الناس لكم رأياً، وإنما أردت أن تقدموه باسم الخلافة وتكونوا أنتم الذين تنزعون وتؤمرون، وتجيبون وتقسمون لا يدخل عليكم في شيء من ذلك. راجع العواصم من القواصم (ص226-228)، والكامل في التاريخ (2/ 512).
واعتبر معاوية أن معارضة هؤلاء ليست لها أثر، وأن البيعة قد تمت، حيث أجمعت الأمة على هذه البيعة. راجع : الفصل في الملل والنحل لابن حزم (4/ 149-151) وقد ذكر كيفية انعقاد البيعة وشروطها فعرضها عرضاً دقيقاً.
وكانت لتولية معاوية ابنه يزيد ولاية العهد من بعده أسباب كثيرة، فهناك سبب سياسي ؛ وهو الحفاظ على وحدة الأمة، خاصة بعد الفتن التي تلاحقت يتلوا بعضها بعضاً، وكان من الصعوبة أن يلتقي المسلمون على خليفة واحد، خاصة والقيادات المتكافئة في الإمكانيات قد تضرب بعضها بعضاً فتقع الفتن والملاحم بين المسلمين مرة ثانية، ولا يعلم مدى ذلك إلا الله تعالى.
وهناك سبب اجتماعي ؛ وهو قوة العصبية القبلية خاصة في بلاد الشام الذين كانوا أشد طاعة لمعاوية ومحبة لبني أمية، وليس أدل على ذلك من مبايعتهم ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه دون أن يتخلف منهم أحد.
وهناك أسباب شخصية في يزيد نفسه، وليس معاوية بذلك الرجل الذي يجهل صفات الرجال ومكانتهم، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة، ثم هو الذي قضى أربعين سنة من عمره وهو يسوس الناس ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء، ويعرف لكل واحد منهم فضيلته، وقد توفرت في يزيد بعض الصفات الحسنة من الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام والقدرة على القيادة، وكل هذه المزايا جعلت معاوية ينظر ليزيد نظرة إعجاب وإكبار وتقدير..
وقد سأل معاوية رضي الله عنه ولده يزيد يوماً حينما أنس منه الحرص على العدل وتأسياً بالخلفاء الراشدين، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة بعد توليه الخلافة، فيرد عليه يزيد بقوله : ( كنت والله يا أبةِ عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب ). ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني ( 1 / 375 ) بسند حسن.
لمزيد من التفصيل والأسباب التي أدت بمعاوية لأخذ البيعة ليزيد، راجع كتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للأستاذ : محمد بن عبد الهادي الشيباني ( ص 126- 136 ). فقد أجاد الباحث في طرح الموضوع وأفاد..
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المؤرخين والمفكرين المسلمين قد وقفوا حيال هذه الفكرة مواقف شتى، ففيهم المعارض، ومنهم المؤيد، وكانت حجة الفريق المعارض تعتمد على ما أوردته بعض الروايات التاريخية من أن يزيد بن معاوية كان شاباً لاهياً عابثاً، مغرماً بالصيد وشرب الخمر، وتربية الفهود والقرود، والكلاب … الخ. نسب قريش لمصعب الزبيري (ص127) وكتاب الإمامة والسياسة المنحول لابن قتيبة (1/ 163) وتاريخ اليعقوبي (2/ 220) وكتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي (5/ 17) ومروج الذهب للمسعودي (3/ 77) وانظر حول هذه الافتراءات كتاب : صورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية فريال بنت عبد الله (ص86-122).
ولكننا نرى أن مثل هذه الأوصاف لا تمثل الواقع الحقيقي لما كانت عليه حياة يزيد بن معاوية، فإضافة إلى ما سبق أن أوردناه عن الجهود التي بذلها معاوية في تنشئة وتأديب يزيد، نجد رواية في مصادرنا التاريخية قد تساعدنا في دحض مثل تلك الآراء.
فيروي البلاذري أن محمد بن علي بن أبي طالب - المعروف بابن الحنفية - دخل يوماً على يزيد بن معاوية بدمشق ليودعه بعد أن قضى عنده فترة من الوقت، فقال له يزيد، وكان له مكرماً : يا أبا القاسم، إن كنت رأيت مني خُلُقاً تنكره نَزَعت عنه، وأتيت الذي تُشير به علي ؟ فقال : والله لو رأيت منكراً ما وسعني إلاّ أن أنهاك عنه، وأخبرك بالحق لله فيه، لما أخذ الله على أهل العلم عن أن يبينوه للناس ولا يكتموه، وما رأيت منك إلاّ خيراً. أنساب الأشراف للبلاذري (5/ 17).
كما أنه شهد له بحسن السيرة والسلوك حينما أراده بعض أهل المدينة على خلعه والخروج معهم ضده، فيروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع - كان داعية لابن الزبير - مشى من المدينة هو وأصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع : إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب، فقال محمد ما رأيت منه ما تذكرون، قد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة، قالوا : ذلك كان منه تصنعاً لك، قال : وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع ؟ ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر، فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا، قالوا : إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه، فقال لهم : أبى الله ذلك على أهل الشهادة، ولست من أمركم في شيء.. الخ. البداية والنهاية (8/ 233) وتاريخ الإسلام – حوادث سنة 61-80ه – (ص274) وحسن محمد الشيباني إسناده، انظر مواقف المعارضة من خلافة يزيد بن معاوية (ص384).
وقد شهد له ابن عباس رضي الله عنه بالفضيلة وبايعه، كما في أنساب الأشراف ( 4 / 289 – 290 ) بسند حسن.
كما أن مجرد موافقة عدد من كبار الشخصيات الإسلامية، من أمثال عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وأبو أيوب الأنصاري، على مصاحبة جيش يزيد في سيره نحو القسطنطينية، فيها خير دليل على أن يزيد كان يتميز بالاستقامة، وتتوفر فيه كثير من الصفات الحميدة، ويتمتع بالكفاءة والمقدرة لتأدية ما يوكل إليه من مهمات.
أخرج البخاري عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحة حمص وهو في بناء له ومعه أم حرام، قال عمير : فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا، فقالت أم حرام : قلت يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم، فقلت : أنا فيهم قال : لا ). البخاري مع الفتح (6/ 120).
وأخرج البخاري عن محمود بن الربيع في قصة عتبان بن مالك قال محمود : فحدثتها قوماً فيهم أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوته التي توفي فيها، ويزيد بن معاوية عليهم بأرض الروم. البخاري مع الفتح (3/ 73).
وفي هذا الحديث منقبة ليزيد رحمه الله حيث كان في أول جيش يغزوا أرض الروم.
ولنستمع إلى وجهة النظر التي أبداها الأستاذ محب الدين الخطيب - حول مسألة ولاية العهد ليزيد – وهي جديرة بالأخذ بها للرد على ما سبق، فهو يقول : إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر وعمر في مجموع سجاياهما، فهذا ما لم يبلغه في تاريخ الإسلام، ولا عمر بن عبد العزيز، وإن طمعنا بالمستحيل وقدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر، فلن تتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر وعمر، وإن كان مقياس الأهلية، الاستقامة في السيرة، والقيام بحرمة الشريعة، والعمل بأحكامها، والعدل في الناس، والنظر في مصالحهم، والجهاد في عدوهم، وتوسيع الآفاق لدعوتهم، والرفق بأفرادهم وجماعاتهم، فإن يزيد يوم تُمحّص أخباره، ويقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم، وأجزل الثناء عليهم. العواصم من القواصم لابن العربي (ص221).
ونجد أيضاً في كلمات معاوية نفسه ما يدل على أن دافعه في اتخاذ مثل هذه الخطوة هو النفع للصالح العام وليس الخاص، فقد ورد على لسانه قوله : اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله، فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كانت إنما حملني حبّ الوالد لولده، وأنه ليس لما صنعت به أهلاً، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك. تاريخ الإسلام للذهبي – عهد معاوية بن أبي سفيان – (ص169) وخطط الشام لمحمد كرد علي (1/ 137).
ويتبين من خلال دراسة هذه الفكرة – وهي ولاية العهد من بعده لابن يزيد -، أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كان محقاً فيما ذهب إليه، إذ أنه باختياره لابنه يزيد لولاية العهد من بعده، قد ضمن للأمة الإسلامية وحدتها، وحفظ لها استقرارها، وجنبها حدوث أية صراعات على مثل هذا المنصب.
قلت : وقد رأى معاوية رضي الله عنه في ابنه صلاحاً لولاية خلافة الإسلام من بعده وهو أعلم الناس بخفاياه ولو لم يكن عنده مرضياً لما اختاره. وحول مبايعة يزيد بن معاوية رحمه الله بولاية العهد، وحول نشوء هذه الفكرة، وحول كون يزيد أهلاً وكفئ لتوليه الخلافة بعد والده، انظر : مقال بعنوان : مبايعة يزيد بن معاوية بولاية العهد، دراسة تاريخية، للدكتور : عمر سليمان العقيلي، في مجلة كلية الآداب، جامعة الملك سعود المجلد (12) ج (2).
والغريب في الأمر أن أكثر من رمى معاوية وعابه في تولية يزيد وأنه ورثّه توريثاً هم من يعتقد بهذا الإعتقاد لغيره.
نعم إنا نستطيع أن نقول بأن يزيد بن معاوية هو أول من عهد إليه أبوه بالخلافة ؛ ولكن لنتصور أن معاوية رضي الله عنه سلك إحدى الأمور الثلاث الآتية :-
1- ترك الناس بدون خليفة من بعده، مثلما فعل حفيده معاوية بن يزيد.
2- نادى في كل مصر من الأمصار بأن يرشحوا لهم نائباً ثم يختاروا من هؤلاء المرشحين خليفة.
3-جعل يزيد هو المرشح، وبايعه الناس كما فعل.
ولنأخذ الأمر الأول :-
كيف ستكون حالة المسلمين لو أن معاوية تناسى هذا الموضوع، وتركه ولم يرشح أحداً لخلافة المسلمين حتى توفي.
أعتقد أن الوضع سيكون أسوأ من ذلك الوضع الذي أعقب تصريح معاوية بن يزيد بتنازله عن الخلافة، وترك الناس في هرج ومرج، حتى استقرت الخلافة أخيراً لعبد الملك بن مروان بعد حروب طاحنة استمرت قرابة عشر سنوات.
ثم لنتصور الأمر الثاني :-
نادى مناد في كل مصر بأن يرشحوا نائباً عنهم، حتى تكون مسابقة أخيرة ليتم فرز الأصوات فيها، ثم الخروج من هذه الأصوات بفوز مرشح من المرشحين ليكون خليفة للمسلمين بعد وفاة معاوية.
سيختار أهل الشام، رجل من بني أمية بلا شك، بل وربما أنه يزيد، وربما غيره.
وسيختار أهل العراق في الغالب الحسين بن علي رضي الله عنهما.
وسيختار أهل الحجاز : إما ابن عمر أو عبد الرحمن بن أبي بكر، أو ابن الزبير رضي الله عن الجميع.
وسيختار أهل مصر : عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
والسؤال الآن : هل سيرضى كل مصر بولاية واحد من هؤلاء، ويسلموا له، أم ستكون المعارضة واردة ؟!
الجواب : أعتقد أن المعارضة ستظهر.
ولنسأل سؤالاً آخر : في حالة أنه تم اختيار كل مرشح من قبل الأمصار، هل يستطيع معاوية أن يلزم كل مصر بما اختاره أهل المصر الآخر ؟!
الجواب : ستجد الدولة نفسها في النهاية أمام تنظيمات انفصالية، وسيعمد أدعياء الشر الذي قهرتهم الدولة بسلطتها إلى استغلال هذه الفوضى السياسية، ومن ثم الإفادة منها في إحداث شرخ جديد في كيان الدولة الإسلامية.
ونحن حينما نورد هذه الاعتراضات، وربما حصل ما أشرنا إليه، وربما حدث العكس من ذلك، ولكنا أوردنا ذلك حتى نتصور مدى عدم صحة الآراء التي أحياناً يطلقها ويتحمس لها البعض دون الرجوع إلى الواقع التاريخي المحتم آنذاك.
لقد تعرض المجتمع المسلم إلى هزة عنيفة بعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وترك كيانات وتيارات سياسية وعقائدية خطيرة، استوجبت من معاوية أن يدرك خطورة الأمر والفرقة التي سوف تحصل للمسلمين إذا لم يسارع بتعيين ولي عهد له..
ويبقى الأمر الثالث : وهو ما فعله معاوية رضي الله عنه بتولية يزيد ولياً للعهد من بعده..
وقد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه، كل من ابن العربي في العواصم من القواصم (ص228-229 )، وابن خلدون الذي كان أقواهما حجة، إذ يقول : والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه - وحينئذ من بني أمية - ثم يضيف قائلاً : وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا، فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك، وسكوتهم عنه، دليل على انتفاء الريب منه، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم - كلهم - أجلّ من ذلك، وعدالتهم مانعة منه. المقدمة لابن خلدون (ص210-211).
ويقول في موضع آخر : عهد معاوية إلى يزيد، خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه، مع أن ظنهم كان به صالحاً، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظن بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهد إليه، وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشا لله لمعاوية من ذلك. المقدمة (ص206). وانظر أقوالاً أخرى لمؤرخين وباحثين يثنون على هذه الخطوة، من أمثال : محمد علي كرد في كتابه : الإسلام والحضارة الغربية ( 2 / 395 )، وإبراهيم شعوط في : أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ( ص 334 )، ويوسف العش في : الدولة الأموية ( ص 164 )، ومقال للدكتور : عمارة نجيب في مجلة الجندي المسلم ( ص 58 ). لمزيد تفصيل في هذا الموضوع، راجع كتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية ( ص 141 – 153 ).
وليس أفضل - قبل أن ننتقل إلى شبهة أخرى - من أن نشير إلى ما أورده ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم ( ص 231 ) من رأي لأحد أفاضل الصحابة في هذا الموضوع، إذ يقول : دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية، فقال : أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه فيها فقهاً، ولا أعظمها فيها شرفاً ؟ قلنا : نعم، قال : وأنا أقول ذلك، ولكن والله لئن تجتمع أمة محمد أحب إلىّ من أن تفترق.
معاوية وبيعة يزيد
القول أن معاوية أرغم المسلمين بالقوة والقهر على بيعة إبنه الفاسق شارب الخمر يزيد، فهذا من الكذب الظاهر فإن معاوية لم يرغم الناس على بيعة ابنه يزيد ولكنه عزم على الأخذ بعقد ولاية عهده ليزيد وتم له ذلك، فقد بايع الناس ليزيد بولاية العهد ولم يتخلّف إلا الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، وتوفيّ معاوية ولم يرغمهم على البيعة. أما أن يزيد فاسق شارب للخمر فهذا كذب أيضاً وندع محمد بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يجيب على هذا الادعاء لأنه أقام عند يزيد وهوأدرى به، قال ابن كثير في البداية (لما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدّى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواضباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة، قالوا: فإن ذلك كان منه تصنّعاً لك. فقال: وما الذي خاف مني أورجا حتى يظهر إليّ الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه. فقال لهم أبى الله ذلك على أهل الشهادة، فقال {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} ولست من أمركم في شيء، قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نولّيك أمرنا. قال: ما استحل القتال على ما تريدونني عليه تابعاً ولا متبوعاً، فقالوا: فقد قاتلت مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه، فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا، قال: لوأمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاماً نحض الناس فيه على القتال، قال: سبحان الله!! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذاً ما نصحت لله في عباده قالوا: إذاً نكرهك. قال: إذا آمر الناس بتقوى
الله ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق، وخرج إلى مكة) (1).
(1) البداية والنهاية جـ8 ص (236).
قصةُ ترشيحِ معاويةَ ابنه يزيد لولايةِ العهدِ بمشورةٍ من المغيرة بن شعبة
نسبةُ القصصِ التي لا تصحُ في حقِّ معاويةَ كثيرةٌ جداً، ومنها قصةٌ ترشيحِ معاويةَ ابنهُ يزيد لولايةِ العهدِ بمشورةٍ من الصحابي الجليلِ المغيرة بنِ شعبةَ رضي اللهُ عنه، ويعتبرونهُ العقلَ المدبرَ – زعموا – للفكرةِ، واعتمدوا في ذلك على روايةٍ مفادها : " أن المغيرةَ بنَ شعبة – رضي اللهُ عنهُ – دخل على معاويةَ، واستعفاهُ من ولايةِ الكوفةِ فأعفاهُ، واراد معاويةُ أن يولي بدلاً منه سعيدَ بنَ العاص، فبلغ ذلك أحد الموالين للمغيرة، وتأثر المغيرةُ عند ذلك وتمنى العودةَ للإمارةِ، فقام فدخل على يزيد وعرّض له بالبيعةِ، فأخبر يزيد والدهُ بما قال له المغيرةُ، فاستدعى معاويةُ المغيرةَ بنَ شعبةَ، وأمرهُ بالرجوعِ والياً مرةً أخرى على الكوفة وأن يعملَ في بيعةِ يزيد ".
ولنا مع هذه الروايةِ وقفاتٌ :
الوقفةُ الأولى :
أورد الشيبانيُّ في " مواقفِ المعارضةِ في خلافةِ يزيد بنِ معاويةَ " ( ص 84 ) هذه الروايةَ وقال عنها : " أوردها ابن أبي الدنيا في " الإشرافِ في منازلِ الأشرافِ " ( ص 121) بإسنادٍ ضعيفٍ، والطبري في " تاريخِ الأممِ والملوكِ " (5/ 301 – 302) بإسنادٍ ضعيفٍ جداً، والذهبي في " تاريخِ الإسلام " في حوادثِ (61 – 80) ص 272 بإسنادٍ ضعيفٍ جداً ".ا.هـ.
فالروايةُ لا تثبتُ سنداً.
وقال الشيباني أيضاً ( ص 85 ) : " وبالنظرِ إلى التناقضِ الذي تحملهُ هذه الروايةُ تجعلنا نقفُ موقف المتشككِ والمنكرِ لهذه الروايةِ، وخاصةً أن سندها لا يشجعُ على قبولها أو الاستئناسِ بها بأي حالٍ من الأحوالِ ".ا.هـ.
الوقفةُ الثانيةُ :
مما يردُّ التهمة عن المغيرة بنِ شعبةَ – رضي الله عنه – بأنه صاحبُ فكرةِ ترشيحِ يزيد بنِ معاويةَ لولايةِ العهدِ ما ذكرهُ ابنُ كثيرٍ في " البدايةِ والنهايةِ " (8/ 80) : " وقد كان معاويةُ لما صالحَ الحسنَ، عهد للحسنِ بالأمرِ من بعدهِ، فلما مات الحسنُ قوي أمر يزيد عند معاويةَ ".
علق الدكتور خالد الغيث في " مروياتِ خلافةِ معاويةَ " ( ص 450 ) : " وهذا يردُّ التهمةَ الموجهةَ إلى المغيرة بنِ شعبةَ بأنه صاحبُ فكرةِ ترشيحِ يزيد بنِ معاويةَ لولايةِ العهدِ، لأن المغيرةَ توفي سنة 50 هـ، أي قبل وفاةِ الحسنِ رضي اللهُ عنهما ".ا.هـ.
الوقفةُ الثالثةُ :
أن معاويةَ هو من أمر بعزلِ المغيرة بنِ شعبةَ – رضي الله عنه -، وعين بدلاً منهُ زياد بن أبي سفيان.
قال الشيباني في " مواقفِ المعارضةِ في خلافةِ يزيد بنِ معاويةَ " ( ص 85 ) : " ثبت عن عميرِ بنِ سعيدٍ النخعي الأصبهاني حين قال لِمُطَرِّف : " ألا أخبرك بكل أميرٍ أتانا حتى مات معاويةُ : أتانا سعيدٌ ثم... ثم إن معاويةَ استعمل علينا المغيرةَ بنَ شعبةَ، ثم عزل المغيرةَ، واستعمل علينا زياداً... ".
أخرجهُ أحمدُ في " العللِ ومعرفةِ الرجال (2/ 25) بإسنادٍ صحيحٍ.
وجاء من طريقٍ آخر عند الطبري ما يعضدُ ويؤكدُ رواية عمير بنِ سعيدٍ النخعي، حيثُ إن المغيرةَ كتب إلى معاويةَ : " أما بعد، فإني قد كبرت سني، ودق عظمي، وشَنِفَت لي قريشٌ، فإن رأيت أن تعزلني فاعزلني. فكتب إليه معاويةُ : جاءني في كتابك تذكرُ فيه أنه كبرت سنك، فلعمري ما أكل عمرك غيرك، وتذكرُ أن قريشاً قد شنفت لك، ولعمري ما أصبت خيراً إلا منهم، وتسألني أن أعزلك، فقد فعلت، فإن تك صادقاً فقد شفعتك، وإن تك مخادعاً فقد خدعتك ".
أخرجهُ الطبريُّ في " تاريخِ الأممِ والملوكِ (5/ 331) بإسنادٍ رجالهُ ثقاتٌ إلى جعفر بنِ بُرقان
وبهذا يتبينُ أن المغيرةَ بنَ شعبةَ قد عُزل فعلاً عن الكوفة، ولم يتولى الإمارةَ حتى مات سنة خمسين للهجرةِ ".ا.هـ. بتصرف.
الوقفةُ الرابعةُ :
قال الشيباني ( ص 86 ) : " ثم إذا فرضنا أن هذه الحادثةَ كانت حوالي سنة 45، أو 46 هـ، فإن سنّ يزيد في تلك الفترة لم يتجاوز الثامنةَ عشرة، فكيف يمكن أن يغامر معاويةُ بالبيعةِ لولده في تلك السن، ولم يُعرف يزيدُ بشيءٍ من الأعمالِ الجليلةِ حتى ذلك التاريخ – أي أن ذلك قبل قيادته لجيش القسطنطينية بحوالي أربع سنوات ".ا.هـ.
وفي هذه الوقفاتِ كفايةٌ لمن أراد الحقَّ، وأنصفَ الخلق، وعرف للصحابةِ حقهم.