آخر تحديث للموقع :

السبت 21 ذو القعدة 1444هـ الموافق:10 يونيو 2023م 11:06:38 بتوقيت مكة

جديد الموقع

الحسين في التراث الشيعي ..

الحسين في التراث الشيعي

هذا فصل من كتاب" الإمام الشهيد في التاريخ والأيدلوجيا شهيد الشيعة مقابل بطل السنة " تأليف : د. سلوى العمد وهو بحث أكاديمي لنيل درجة الماجستير من الجامعة الأمريكية ببيروت ، والمؤلفة أردنية ، كتبت هذا البحث لملاحظتها إعلانات نعي المقاومين السنة والشيعة في بيروت أن السني يصفونه بالشهيد البطل والشيعي بالشهيد المظلوم ، فبحثت الموضوع من زاوية أنثروبولوجية ، ولذلك توجد بعض الملاحظات على بحثها، ونشره لا يعنى الموافقة الكاملة عليه.  الراصد

  الحسين في كتابات الشيعة

كثيرة هي مؤلفات الشيعة حول الحسين، وهي واحدة من حيث الغاية وإن تعدًّدت وسائط التعبير أو الأسلوب فيها. فمضمون هذه المؤلفات هو أقرب  من حيث التوجه العام  إلى شعار ثورة دائمة في وجه السلطان الزمني الماثل في ظلم الإنسان بعيدا عن هداية الأئمة. على أنه من الممكن تصنيف الكمِّ الوافر من مؤلفات الشيعة حول هذا الموضوع في ثلاثة أصناف: الأول، ويغلب على روايته لتاريخ الحسين طابع الأسطورة. ويتميز هذا الصنف في ربطه التاريخ التاريخي للحسين، بأفكار شغلت الإنسان منذ بدء الخليقة حول نشأة الكون والحياة. وفي هذه الأفكار يلعب النور الإلهي دوراً هامَّاً، حيث يرمز النور فيها إلى وجود أزلي للحسين.

ويزخر هذا النوع من المؤلفات بأفكار يغلب عليها طابع الإيمان بعناصر البعث  والآخرة والحساب، وهي أفكار غالبا ما ربطها هذا النوع من الكتابات بمأساة الحسين، ومصيره الشخصي وموقف الناس من ذلك، فمثلا، يرى هذا الصنف من المؤلفات أنَّ موقف الناس من الحسين وآل البيت والمصائب التي حلَّت بهم، هو مقياس الثواب والعقاب في الآخرة. كذلك، احتوى هذا الصنف على أفكار أسطورية تركزت حول مراحل التحول الأساسية في حياة الحسين. ومرحلتا الولادة والموت هما أبرز هذه المراحل في الأسطورة. وفي هذا أيضا إشارة إلى البدء والمنتهى (نشأة الكون ومصير الإنسان فيه)، وهي إشارة تُخرج الحسين من الحدود التاريخية لولادته في العام الرابع للهجرة، والحدود التاريخية لاستشهاده في العام 61 هجرية، إلى وجود أزلي تخطى حدود التاريخ والأُسطورة معاً.

وأبرز المؤلفات المعبرة عن الاتجاه المذكور، تلك التي ظهرت بين القرنين الرابع والسابع للهجرة،([1]) وهذه هي الفترة التي يبدو أن شخصية الطائفة الإمامية قد تبلورت فيها بشكل ناجز. وللمنحى الأسطوري في تفسير تاريخ الحسين ومصيره، امتداد في مؤلفات معاصرة.([2]أمّا الصنف الثاني من الأدبيات فله طابع طقسي كمجالس العزاء والمراثي (شعرا ونثرا). والمراثي هي النصوص التي تتلى في مجالس العزاء وقد كتبت بأُسلوب ميلودرامي يستهدف استقطاب التعاطف الوجداني مع آلام آل البيت وينطوي على مضمون تعبوي لا يستهان به، خاصة فيما يتعلق بمقتل الحسين.([3]ويحرص هذا النوع من الكتابات الوجدانية على إظهار هول مأساة الحسين من خلال تعداد الفظائع التي حلَّت به وبصحبه وآل بيته. وتعلو وتيرة المضمون التعبوي للأدبيات الطقسية في الظروف السياسية الضاغطة، فهي ترمز إلى الانكسار السياسي، وإلى التمرد على هذا الانكسار. وهذا الصنف من الكتابات الشعبية موجه إلى عامة الشيعة ووظيفته تغذية الممارسات الطقوسية في ذكرى عاشوراء بعناصر التعاطف الوجداني مع آلام الشهيد.

تجدر الإشارة إلى أن أدب المراثي ومجالس العزاء حديث نسبيا من حيث النشأة التاريخية، فيما الممارسة الطقسية الشفوية للذكرى، ظهرت قبل ظهور الكتابات الأسطورية بعقود عدة على أقل تقدير، وقبل ظهور أدب المراثي والطقوس بقرون. ففي حين أن الطقوس  مثل تسيير مواكب الندب  بدأت تأخذ طريقها للوجود في منتصف القرن الرابع للهجرة/ العاشر للميلاد، فإن الكتابات الأسطورية ظهرت بعد ذلك بفترة وجيزة وتكرست  على نحو ناجز في القرنين السادس والسابع للهجرة/ الثاني عشر والثالث عشر ميلادية.

أما الصنف الثالث من المؤلفات الشيعية، فيبقى فيه الحسين شخصية تاريخية بالكامل، غير أن هذا الصنف يضفي على شهيد كربلاء هالة تسبغ عادة على الشخصيات الاستثنائية لدى عموم الجماعات الإنسانية. وكتابات هذا الصنف تشير إلى كل صغيرة وكبيرة وردت عن الحسين في كتب الحديث النبوي وكتب التاريخ الكلاسيكية. كما تتضمن الأقوال المنسوبة للأئمة عن الحسين والتي ترد في مؤلفات علماء الشيعة الأوائل.([4])

ويمكن القول إن نسبة لا يستهان بها من كتابات الشيعة، قديمها وحديثها، يقع في هذا الصنف، المفعم بالمقولات الدينية ذات المضامين السياسية. وقد اتخذت هذه المقولات أشكالاً عدة منها ما تناول سيرة الحسين ومآثره وصفاته، التي تخرجه عن مصاف الناس العاديين وتدخله في عداد الأنبياء والأولياء، ومنها ما اقتصر على معركة كربلاء كقيمة ومعنى. وغالبية مؤلفات هذا الصنف هي من الأدبيات الشيعية المعاصرة التي تتناول كربلاء باعتبارها ثورة على الظلم، وتعالج بالعرض والتحليل المعاني الدينية والسياسية لاستشهاد الحسين مستخلصة القيم التي مثلها قولا وعملا ومصيرا. وكتابات الشيخ محمد مهدي شمس الدين، رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، نموذج للمؤلفات التي تبتعد عن الطرح الأسطوري، وتقترب من لغة الثورة والشعار الثوري في مواجهة "الكسروية" و "الملك العضوض".([5]) كما أن كتاب هذا الصنف هم من كبار علماء الطائفة ومن المثقفين والمتعلمين الشيعة، فضلا عن بعض المثقفين العرب المعاصرين (من غير الشيعة)، الذين يستلهمون حسَّ الثورة ضد قسر الحكام، من واقعة كربلاء.([6])

يهدف تصنيف أدبيات الشيعة الإماميين على النحو الوارد أعلاه إلى التعرف على الملامح الأساسية لأدبياتهم حول الحسين وشهادته، وللتمييز بين أسلوبين داخل الجماعة الواحدة، في طرح الأيديولوجيا الدينية  السياسية المعارضة، التي تنطوي عليها عقائد الإمامية. ويتضح البعد العقائدي أكثر ، عندما نتعرف على معاني الأسطورة المنسوجة حول الحسين وشهادته في كربلاء. ففي كتابات الشيعة عن الحسين، يصعب على القارئ  أحيانا  وضع خط فاصل بين ما هو أسطوري وما هو تاريخي. إذ كثيرا ما ترد العناصر الأسطورية مدمجة بالوقائع التاريخية. وبعض الخوارق عن الحسين  أو تلك المنسوبة إليه  يستند في مصداقيته إلى تأويل أحاديث نبوية وآيات قرآنية، فسرت على أنها وردت بشأن الحسين.([7])

تُرجع الموسوعة الإسلامية الأصل في أسطورة الحسين إلى غلاة فرق الشيعة.([8]) وأيا يكن الأصل المرجح للأسطورة، فإنه ليس ثمة ما يمنع من وجود تداخل في الآراء والمعتقدات بين فرق الشيعة، المغالية منها والمعتدلة، ذلك لأن الجذر التراثي للتشيع واحد. وتداخل كهذا ممكن، حيث العديد من مؤلفات الشيعة الإماميين  وخاصة الأدبيات الشعبية  يزخر بالعناصر الأسطورية حول الحسين وشهادته. ويجوز أن يكون بعض كتاب الإماميين قد استفاد من مؤلفات الغلاة في المراحل الأولى من التشيع.

على أن عنصرين من عناصر أسطورة الحسين يغلبان على العقائد الإمامية المعاصرة، وهما: الاستذكار السنوي لعاشوراء في مجالس العزاء، والطابع الأيديولوجي  السياسي الذي يتسم به هذا الاستذكار في مضامين الخطب والأشعار المواكبة للذكرى. والأيديولوجيا والطقوس هما في الواقع وجهان لعقيدة واحدة متكاملة هي الأيديولوجيا السياسية  الدينية المعارضة، فشعار الثورة تغذيه الطقوس التي تسهم في تعبئة المشايعين وتأطيرهم، ومن ثم تعزيز التضامن الداخلي للطائفة.

الحسين في الأُسطورة

فيما يمكن القول إن كل طفل من الطائفة الشيعية في لبنان والعراق والبحرين وإيران وغيرها من البلدان الإسلامية ذات الكثافة الشيعية، قد رافق والده أو والدته إلى مجالس العزاء التي تقام في الذكرى السنوية لعاشوراء في العاشر من المحرم من كل عام، فإن جمهور السنة لا يعرف هذا اليوم إلاّ من زاوية أنه يوم مبارك في الإسلام كيوم المولد النبوي ويوم منتصف شعبان وليلة القدر في السابع والعشرين من رمضان وغيرها من الأيام التي يقوم المسلمون بإحياء ذكراها سنويا. وقد تكون للواقعة التالية دلالة على ما سيرد تاليا في هذا البند بشأن عاشوراء.

في أحد أيام ذكرى عاشوراء في الثمانينات، جمعتني جلسة أصدقاء في بيروت مع رجل شيعي وامرأة سنية. قالت السيدة موجهة كلامها للرجل: نحن أيضا نحتفل بعاشوراء، عندما كنت طفلة كان أهلي يصومون هذا اليوم ويقيمون الصلاة فيه ويصنعون الحلوى. فعلق الرجل الشيعي بتندّر: "أجل ولكنكم تصنعون الحلوى وتوزعونها في عاشوراء ونحن نلطم الخدود، فأنتم تفرحون حيث نحزن"!

ليوم عاشوراء بركة في جزيرة العرب قبل الإسلام، وهو أمر لا يعرفه الكثيرون من عامة المسلمين، السنة والشيعة، إذ كانت القبائل ويهود يثرب يصومونه، وكانت قريش تصومه وتستر الكعبة فيه. "وذكر أن النبي محمداً كان يصومه في الجاهلية أيضا.ولما قدم إلى المدينة، كان يصومه، وأمر بصيامه. فلما فرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه".([9]) لذا يُرجَّحُ أن بركة عاشوراء كبركة الأشهر الحرم  وعاشوراء هو أحد أيام هذه الأشهر  استمرت بعد الإسلام كغيرها من التقاليد التي تم الحفاظ على مكانتها المباركة في الإسلام. غير أن مقتل الحسين في العاشر من المحرم ربط هذا اليوم في ذاكرة الشيعة والمسلمين عامة باستشهاده، فصارت كربلاء جذرا لعاشوراء، تلاشى أمامه الجذر التاريخي.

ترى الأدبيات الشعبية للشيعة، أن مقتل الحسين في كربلاء، قديم لا حادث، وأن عاشوراء يوم مبارك لاقترانه منذ الأزل بمقتل الحسين في عاشر المحرم من العام 61للهجرة، لذا تكون شهادة الحسين تجسيدا لإرادة إلهية أزلية. يقول الخوارزمي في مقتل الحسين، إن الله قد خلق أفضل الأشياء والأحياء والأنبياء في يوم عاشوراء، وإن أهم الأحداث الربانية حصلت فيه، ومنها استواء الله على العرش، وأن النبي محمداً ولد في العاشر من المحرم، وأنه كان يصوم هذا اليوم التماسا لفضله.([10]) هنا يربط المؤلف البعد التاريخي لمعركة كربلاء بالزمن الميثولوجي لعاشوراء، أي أنه أحال الواقعة التاريخية إلى جذر ميثولوجي له دلالة دينية تملك قوى روحية خارقة وتتمتع بحيوية وديمومة تتجاوزان زمان ومكان وقوع كربلاء.

ومن العناصر الأسطورية حول عاشوراء، تلك التي تذكر الفرق بالأيام والأشهر بين ولادة الحسن والحمل بالحسين وولادته. ففي إحدى الروايات أن فرق الأيام بين ولادة الحسن والحمل بالحسين كان عشرة أيام. وفي رواية أخرى أن الفرق بين ولادتهما كان عشرة أشهر وعشرون يوما.وفي رواية ثالثة  نقلا عن الإمام الصادق  أنه كان ستة أشهر وعشرة أيام. وفي رواية رابعة كان الفرق سنة وعشرة شهور.([11]) والقاسم المشترك في هذه الروايات الأربع، التي وردت في مصدر واحد بأسانيد مختلفة، هو تكرار الرقم عشرة فيها. ولا تفسير لتأول الرواة الشيعة هذا الرقم سوى العاشر من المحرم، الذي وقع فيه استشهاد الحسين.

ولا غرابه في الأمر، فغالبا ما تميل الذاكرة الشعبية في التراث الإنساني عامة لإقران رقم معين بحياة إنسان استثنائي في شخصه أو مصيره، على أنه إحدى الخوارق المتعلقة بفرادة ذلك الإنسان في التاريخ. وفيما يتعلق بالحسين، فإن الجذر التاريخي لاقتران الرقم عشرة به في ذاكرة الناس، توفر بواقعة استشهاده في العاشر من المحرم. فلقد كان هذا الحدث جذرا لكل ما كتب عن الحسين في التاريخ والأسطورة والأيديولوجيا على حد سواء.

وأما العناصر الأسطورية الأخرى، فقد استمدتها الكتابات الشعبية الشيعية من قصص دينية وردت في العهد القديم والقرآن الكريم. ويلحظ المتفحص لعناصر الأسطورة أن ما استمد من العهد القديم ورد كذلك في القرآن. بذا يصح القول بأن مجمل عناصر أسطورة الحسين مستلهم من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية تم تأويلها بما يتوافق ومرجعيتها الأسطورية. فمثلا، هناك حيز كبير في وقائع الأسطورة للنور والجن والملائكة وجبريل (ناقل الوحي للنبي)، وهذه جميعا عناصر مذكورة في القرآن والأحاديث النبوية. كما لم ينف الإسلام تماما كل ما جاءت به أديان الكتب السماوية السابقة (اليهودية والمسيحية) من قصص وأساطير حول الأنبياء الأولين كإبراهيم وإسحق وموسى ويعقوب وعيسى بن مريم، بل الإسلام أكد على العديد منها. وتحضر قصص الأنبياء الأولين في أسطورة الحسين تأكيداً على أزلية انتمائه للنبوة.

وللخوارق المنسوجة حول الحسين محاور ثلاثة: خوارق يعتقد بوقوعها قبل ولادته (كالقول بأزلية وجود الحسين على شكل عمود من نور)، وأخرى اقترنت بولادته، وثالثة ارتبطت باستشهاده. وهي بالإجمال نوعان: بعضها يُشير إلى تفرد الحسين في الفضل بين بني البشر قاطبة، والبعض الآخر نسبإليه، كالقدرة على الإشفاء أو الشفاعة للخلق يوم القيامة، إلى غير ذلك مما ينسب من كرامات للأنبياء والأولياء.

يبدأ تاريخ الحسين في القصص المسطورة عنه، من نقطة يصعب تحديدها. فهو فيها أصل النبوة لا سليلها، وهو أزلي الحضور تجلى على هيئة نور انتقل في أصلاب الأنبياء منذ آدم وصولا إلى النبي محمد. ففي دلائل الإمامة لابن رستم الطبري، أن الله خلق الخمسة الأُول من آل البيت (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين)، قبل أن يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام. وأنهم  أي الخمسة  "كانوا قدّام العرش الإلهي على شكل عمود من نور قُذف في صلب آدم، ثم أُخرج إلى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، إلى أن صُيِّرَ في صلب عبد المطلب، فشقه الله نصفين: نصف في عبد الله والنصف الآخر في أبي طالب، ثم أُخرج النصف الذي للنبي إلى آمنة بنت وهب (أم النبي)، والنصف الآخر إلى فاطمة بنت أسد (أم علي)، فأخرجت آمنة محمدا، وأخرجت بنت أسد عليّا.ثم أُعيد النور كله إلى النبي، فخرجت فاطمة الزهراء، ثم أعيد إلى علي، فخرج الحسن والحسين من النصفين مجتمعين، فما كان من علي صار في ولد الحسن، وما كان من النبي صار في ولد الحسين، وهو ينتقل في الأئمة من ولده إلى يوم القيامة".([12])

وفي رواية ثانية، أن نور الإمام الحسين كان يظهر على جبين الأمهات عند الحمل بأحد أجداد النبي، وأن النور انتقل إلى جبين آمنة بنت وهب عند حملها بالنبي، وأن فاطمة الزهراء حين حملت بالحسين، قال لها النبي: "إني أرى في مقدم وجهك ضوءاً، وستلدين حجة لهذا الخلق".([13]) وتضيف الرواية عينها، أن النور لم يظهر على جبين فاطمة حين حملت بابنها الأكبر، الحسن، لكنها حين حملت بالحسين، لم تكن تحتاج في الليلة الظلماء إلى مصباح.

في فكرة النور الحسيني ملامسة واضحة لفكرة الإنسان الأول الذي كان في البدء على هيئة نور وأدَّى وظيفة كونية  طبقا لأُسطورة آرية قديمة  وذلك قبل ظهور البعد الديني أو الخلاصي (من فكرة الخلاص الديني) لهذا الإنسان مع مجيء العصر الهيليني.([14]) وتلامس هذه الفكرة أيضا، عناصر دينية حادثة زمنيا، بالقياس إلى فكرة الإنسان الأول ذي الوظيفة الكونية. وتبدو هذه العناصر في مسألتي الخلق والبعث ومصير الإنسان فيهما كما تطرحها أُسطورة الحسين. فهذه الأُسطورة تجد حلاّ لمعضلة الإنسان إزاء المطلق الكامن فيه، من خلال صيغة توفيقية جعلت من الحسين كائنا نصف إلهي  نصف بشري. ولهذا الأمر مغزاه الهام في معرض تحليل فكرة الشهيد في عقائد الشيعة الإماميين، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الشهيد في عقائدهم هو من اجتمعت فيه صفتا الثائر والولي. والأسطورة حول ولادة الحسين واستشهاده، تعزز هذه الفكرة وترجح انتصار الإلهي في الإنسان من خلال قدر الشهادة.

أمّا الخوارق المقترنة بولادة الحسين وطفولته، فمنها أن الحسين قد سقط ساجدا لله لحظة ولادته،([15]) وأن جبريل هبط مع ألف ملك من السماء لتهنئة النبي بميلاد الحسين،([16]) ونقل له التهاني الإلهية بهذا الحدث.([17]) وثمة خوارق تتصل برضاعة الحسين، منها أن الله قد جعل للحسين في إبهام النبي غذاء يغتذي به لمدة أربعين يوما عندما لم تتمكن فاطمة من إرضاعه لعلة ألمت بها.([18]) وعن طفولة الحسين، أن جبريل نزل يوما وكانت فاطمة نائمة فيما الحسين قلق على عادة الأطفال في الليل، فقعد جبريل يلهيه إلى أن استيقظت فاطمة، فأعلمها النبي بما كان.([19]) وفي رواية أخرى أن النبي حمل الحسين على كتفه اليمنى والحسن على اليسرى. فنزل جبريل فأخذ الحسين وحمله، فكانا (أي الحسن والحسين) يفتخران، فيقول الحسن حملني خير أهل الأرض، ويقول الحسين، حملني خير أهل السماء.([20])

وأما الكرامات المنسوبة للحسين فكثيرة، منها ما يتحدث عن قدرته منذ الطفولة على الإشفاء والشفاعة، كقصة ملك يدعى فطرس، كان الله قد أنزل به عقابا لمخالفة أتى بها، وأنَّ فطرس هذا طلب من جبريل أن يأذن له بمرافقته لتهنئة النبي بولادة الحسين، لعل الطفل الوليد يشفع له فتعود إليه سلامة جناحيه، وأنه (أي الملك فطرس) كان له ما تمنى عندما استعلم النبي عن حاله، فطلب منه النبي مسح جناحيه بالحسين، فإذا به قد عاد لحاله الطبيعي، "وأصبح من ذلك الحين يعرف بعتيق الحسين، وقد أمره الله أن يلزم أرض كربلاء فيخبر بكل مؤمن زار قبر الحسين إلى يوم القيامة".([21]) ومما يروى أن امرأة أصابها حرق على الجبين من كثرة السجود، وكانت زوارة للحسين، فاحتبست بعد ذلك، وعندما علم الحسين بأمرها ذهب إليها ونفث على الحرق فلم يعد له أثر، ثم قال: "نحن وشيعتنا على الفطرة وسائر الناس منها براء".([22])

ومن صفات الحسين، في وقائع الأسطورة، أنه كان "{...} جيد البدن حسن القامة جميل الوجه، وصبيح المنظر نور جماله يغشى الأبصار وله مهابة عظيمة ويشرق منه النور بلحية مدورة قد خالطها الشيب، أدعج العينين، أزج الحاجبين، واضح الجبين، أقنى الأنف، كان إذا جلس في المكان المظلم يهتدي إليه الناس ببياض جبينه ونحره كأن الذهب يجري في تراقيه، وإذا تكلم رأى (الناس) النور يخرج من ثناياه، ولم يكن يمر في طريق فتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه لطيب رائحته". وفي إشارة لمهابته: "{...} أن الحسن كان يعظم أخيه (كذا في الأصل، والصحيح أخاه) الحسين، كأنه أسن منه"،([23]) في حين تشير المصادر التاريخية  إلى أن الحسن كان ناصحا لأبيه وموجَّها لأخيه الحسين في أكثر من موقف وأن الحسين التزم موقف أخيه الأكبر في موادعته معاوية.

أما الخوارق حول شهادة الحسين فكثيرة. ويمكن تصنيفها، استنادا للأدبيات المتوفرة، في أربعة أنواع: أحدها يتحدث عن إخبار الأنبياء السابقين بمقتل الحسين، والثاني يذكر أنَّ جبريل والملائكة أخبروا النبي بمقتله بعد مرور سنة على ولادته. والثالث يروي وقوع خوارق وبطولات أثناء المعركة نُسبت للحسين وهناك الخوارق التي اعتقد بحصولها بعد مقتله في كربلاء.

يتكرر الحديث في الأسطورة عن إخبار أنبياء سابقين بمقتل الحسين على أرض تدعى كربلاء، وفيها أنَّ آدم وموسى بكيا الحسين، وأن عيسى بن مريم لعن قاتله.([24]) ومن ذلك أيضا أن جبريل لقَّن آدم أسماء آل البيت الخمسة (النبي، فاطمة، علي والحسن والحسين)، وأنه  آي آدم  عندما أراد ذكر اسم الحسين "{...} سالت دموعه وانخشع قلبه فقال: أخي جبريل مالي إذا ذكرت الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي فقال جبريل: ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب قال يُقتل عطشانا (كذا في الأصل)([25]) غريبا وحيدا ولو تراه يا آدم وهو ينادي واعطشاه حتى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان فبكى آدم". وفي رواية إن النبي إبراهيم، "{...} مرَّ بكربلاء وهو راكب فرسه فعثرت به الفرس فسقط على الأرض وُشجَّ رأسه وسال دمه فأخذ يكثر من الاستغفار وقال إلهي أي شيء حدث مني؟ فنزل جبريل وقال يا إبراهيم ما حدث منك ذنب ولكن هنا يُقتل سبط النبيَّين فسال دمك وموافقة لدمه فبكى إبراهيم".([26])

والخوارق عن إخبار النبي محمد بمقتل الحسين عديدة. يقول ابن طاووس إنه بعد مرور سنة كاملة عن مولد الحسين، "هبط على النبي اثنى عشر (كذا في الأصل)([27]) ملكاً أحدهم على صورة الأسد والثاني على صورة الثور والثالث على صورة التنّين والرابع على صورة ولد آدم والثمانية الباقون على صور شتّى محمرة وجوههم باكية عيونهم قد نشروا أجنحتهم وهم يقولون يا محمد صلى الله عليه وسلم سينزل بولدك الحسين عليه السلام ابن فاطمة ما نزل بهابيل من قابيل وسيعطى مثل أجر هابيل ويُحمل على قاتله مثل وزر قابيل". وفي المصدر ذاته، أن النبي، بعد مرور سنتين على مولد الحسين، عرج في سفر فوقف في الطريق واسترجع فدمعت عيناه فسئل عن ذلك، فقال: "هذا جبرائيل عليه السلام يخبرني عن أرض بشطِّ الفرات يقال لها كربلاء يقتل عليها ولدي الحسين بن فاطمة{...}".([28])

والخوراق حول معركة كربلاء عديدة، منها ما تمحور حول الشهادة كقدر إلهي كتب على الحسين منذ الأزل. ولهذا يبدو الحسين في الوقائع الأسطورية للمعركة، منفذاً لمشيئة إلهية. فبعض المصادر يروي أنَّ الحسين كان على علم بمقتله، وأنَّ قدر الشهادة تجلَّى له في منامات رآى أحدها فيما كان ذاهبا لوداع قبر جدِّه النبي قبيل رحيله إلى الكوفة، إذ جاءه النبي في المنام قائلا: "{...} كأني أراك عن قريب مرملا بدمائك، مذبوحا بأرض كربلاء، بين عصابة من أُمتي، وأنت في ذلك عطشان لا تسقى وظمآن لا تروى، وهم في ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة{...}".([29])

يقول المقرَّم، إن الحسين كان مسيرا بقدره إلى كربلاء، لأن الشهادة كتبت عليه قبل أن يولد، وأما استغاثاته يوم المعركة، "فلم تكن إلاّ من قبيل الحجةَّ على هذا الخلق".([30]) وفي رواية لابن طاووس، نقلا عن الشيخ المفيد، وبالإسناد للإمام السادس، الصادق، أن أفواجا من الملائكة لاقت الحسين، فيما كان في طريقه إلى الكوفة، وقالت له: "{...} يا حجة الله على خلقه بعد جدِّه وأبيه وأخيه إن الله عز وجلَّ أمدَّ جدَّك رسول الله صلى الله عليه وآله بنا في مواطن كثيرة وإنَّ الله أمدَّك بنا، فقال: "الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلاء{...}".([31]) وتذكر الرواية عينها أن أفواجا من مؤمني الجن أرادت هي الآخرى الانتصار للحسين، فأبى قائلا: "من ذا يكون ساكن حفرتي وقد اختارها الله تعالى لي يوم دحا الأرض وجعلها معقلا لشيعتنا ومحبينا{...}".

وأما الخوارق حول شجاعة الحسين فعديدة كذلك، بعضها يبرز الشجاعة الخارقة للمألوف التي أبداها الحسين، من خلال إظهار الفارق الكبير في العدد والعدَّة بين الفريقين، فأصحاب الحسين لم يتجاوزوا العشرات (كما ورد في كتب التاريخ الكلاسيكية)، غير أن وقائع الأسطورة تبالغ في عدد القوات التي حاربت الحسين وصحبه، فمصادر الشيعة تذكر  نقلا عن الإمام الصادق في أغلب الأحيان([32])  أن جند الكوفة كانوا ثلاثين ألفا، وفي رواية أُخرى مائة ألف، أمّا الروايات التاريخية فتجمع على أنَّهم كانوا خمسة آلاف، بمن فيهم الألف فارس الذين كانوا تحت إمرة الحرّ بن يزيد الرياحي، الذي انضم بصفة فردية للحسين قبيل بدء المعركة.

تقول إحدى الروايات في ذكرها لبطولات الحسين في مواجهته مع الخصم بعد مقتل أصحابه، إن الحسين بعد ذلك، "{...} دعا جند الكوفة للمبارزة فلم يزل يقتل من برز إليه منهم حتى قُتل {...}"،([33]) وإنه ظلَّ "{...} يقاتل حتى قتل ألفا وتسعماية وخمسين رجلاً، وأن مائة وثمانين وأربعة آلاف من جند الكوفة حملوا على الحسين بالطعن بعد ذلك، فأصابوه ب "{...} ثلاثماية وبضع وعشرين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم"،([34]) فيما تذكر كتب التاريخ أن الحسين قد أُصيب بثلاث وثلاثين طعنة وأربع وثلاثين ضربة.([35])

ومن الخوارق ما ذكر بأنه اعترى الكائنات إثر مقتل الحسين، كالقول بأن غبرة شديدة سوداء ارتفعت في السماء يوم مقتله حتّى ظن الناس أن العذاب قد أتاهم.([36]) وعن زرارة بن أعين عن الإمام الصادق أنه قال: "بكت السماء على يحيى بن زكريا وعلى الحسين بن علي أربعين صباحا ولم تبك إلاَّ عليهما، قلت: فما بكاؤها؟ قال. كانت الشمس تطلع حمراء وتغيب حمراء".([37]) وقيل إن السماء أمطرت دما يوم مقتل الحسين، وإن أثر الدم بقي عالقا في ثياب الناس،([38]) وإنه ما رفع حجر في الشام، وقيل في الدينا، إلا ووجد تحته دم عبيط، وقيل إنه ما رفعت في ذلك اليوم حصاة في بيت المقدس إلاّ ووجد تحتها دم عبيط،([39]) وإن الناس مكثوا شهرين أو ثلاثة يرون الحيطان وكأنما لطخت بالدم مع مطلع الشمس كلّ يوم وحتّى ارتفاعها في السماء.([40])

وبعض الروايات تتحدث عن خوارق صدرت عن جسد الحسين وعن رأسه المقطوع. ففي رواية أن جسد الحسين قد رفع يوم مقتله إلى السماء الخامسة، ثم أعيد إلى أرض  كربلا,([41]) وأن رأسه قد نطق بآيات قرآنية، وأنه سمع يتلو سورة الكهف.([42]) يقول المقرم: "والكلام من رأس مقطوع أبلغ في تمام الحجة"([43]). ومن الخوارق ما ذكر بأنه اعترى الكائنات الحية على مختلف أنواعها، كالقول بأن الوحوش في البراري بكت الحسين.([44]) ومن ذلك ما ذكره الخوارزمي، نقلا عن رواة عن رجل أنه قال: "كنت أفت الحب للعصافير كل يوم فكانت تأكل، فلما كان يوم عاشوراء فتت لها فلم تأكل فعلمت أنها امتنعت لقتل الحسين بن علي عليه السلام"([45]) وفي تذكرة الخواص لابن الجوزي، أن الجند عندما أرادوا أكل لحوم الإبل التي حُمل عليها رأس الحسين وجدوه أمر من الصبر فلم يتمكنوا من أكله".([46]) وتتحدث إحدى الروايات عن احتجاج الملائكة لدى العرش الإلهي على مقتل الحسين. ويذكر ابن طاووس هذه الحكاية على النحو الآتي: "{...} لما كان من أمر الحسين (ع)ما كان، ضجت الملائكة إلى الله بالبكاء وقالت يا رب هذا الحسين (ع) صفيك وابن بنت نبيك، قال فأقام الله ظل القائم (ع) وقال: بهذا أنتقم لهذا".([47])

يحتل الانتقام الإلهي من قتلة الحسين حيزا لاُ يستهان به من وقائع الأُسطورة. ففيها أن الله انتقم من قتلة الحسين ومن الساكتين على قتله.([48]) عندما سلط عليهم "عَلام ثقيف"  وهو لقب يشار به للمختار بن أبي عبيد الثقفي الذي تتبع قتلة الحسين واحدا واحدا وقتلهم. والعديد من مصادر الأسطورة يعتبر حركة المختار جزءا من الانتقام الإلهي لقتل الحسين. كما شملت الأسطورة أرض كربلاء ذاتها، فأشير إلى أن كربلاء كانت منذ القدم مزارا للأنبياء، وموطنا لأحزانهم، وأنه ليس من سر لذلك سوى استشهاد الحسين فيها.([49])

لم تقتصر أسطورة الحسين عليه وعلى الأنبياء الأولين، كما هو ملحوظ، بل امتدت لتشمل آل بيته، بدءاً بجده النبي (هنا بوصفه جدَّ الحسين وخاتم النبوة) وفاطمة الزهراء (أمه) والإمام علي (أبيه)، والإمام الحسن (أخيه الأكبر)، ثم انتهاء بالحسين. على أنها لا تتوقف عند الحسين، بل هي تمتد لتشمل التسعة الباقين من الأئمة والذين تحصرهم عقائد الإماميين في نسل الحسين  دون الحسن، كما سبقت الإشارة (انظر تاليا، سلسلة الأئمة الإثنى عشر كما يرد تسلسلهم عند الشيعة الإمامية).

واتساع الأسطورة لتشمل الأئمة من نسل الحسين، جاء لينسجم مع مقولة إمامة النص عند هذه الطائفة. ففي إمامة النص أن الأئمة من نسل الحسين هم وسطاء الرعاية الإلهية على الأرض، التي ترى عقائد الإماميين استحالة خلوها من حجة عليها، والأئمة هم هذه الحجة. بل إن آخرهم، أي الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن، هو هذه الحجة. وفي الأسطورة أيضاً، أن عودة الإمام الثاني عشر بعد غيبة، هو "الانتقام الإلهي" لمقتل الحسين.([50])

غير أن اتساع الأسطورة لم يأت على حساب محورية شخص الحسين فيها، بل جاء ليؤكد هذه المحورية في جانبين: الأول، حضور الحسين كمقولة أيديولوجية في الصياغة العامة لوجهة النظر الكونية للشيعة الإمامية. والثاني، هو البعد الديني  السياسي الذي ترمز له شهادة الحسين في عقائد هذه الطائفة. هذا البعد، الذي ينطوي على معارضة ضمنية لأهل الحكم، تم التعبير عنها ميثولوجياً بأسطورة الإمام الشهيد، وأيديولوجياً بشعار الثورة، واتحاد أسطورة الشهيد بشعار الثورة، يحقق التكامل الوظيفي للأسطورة والشعار في أوساط المشايعين. فشهادة الإمام، تستتبع مناهضة الحاكمين من جانب الأشياع، تعبيرا عن الاستجابة للرعاية الإلهية على الأرض، والتي ترى عقائد الإماميين أنها لا تتواصل إلا بعودة الإمام الغائب، الذي "سيملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا وظلما".

وهكذا، فإن اختفاء الإمام ليس نهاية المطاف، بل إن غيبته لفترة  تطول أو تقصر  هو ما يعطي للمؤمنين مبرر الانسحاب من العملية السياسية الزمانية (إبان غيبته) أو الثورة (عندما تلوح في الأفق عودته). هذا التأرجح بين الموقفين هو ما يفسره بعض الدارسين للعقائد الإمامية بثنائية الثورة والتقية.([51]) التي يرون أن عقائد هذه الطائفة تميزت بها. غير أننا لا نرى في ذلك سمة خاصة بعقائد الشيعة، ونرجح أن اقتران التقية بالممارسة السياسية للشيعة لفترات طويلة، جعلها تبدو كأنها سمة خاصة بعقائدهم، خاصة وأن الإماميين دعوا للتقية في ظروف الاضطهاد. غير أن بعض أهل السنة كذلك، مارسوا التقية في ظروف الاضطهاد أو الخوف من وقوعه.([52])

كما أن كل معارضة، دينية كانت، أم سياسية أم عرقية، تلجأ للتقية عندما يكون الخطر محدقا بوجودها. وما وجود تنظيمات سرية في مختلف المجتمعات الإنسانية، وأخرى شبه سياسية  (parapolitical) تعبر عن نفسها في أطر علنية إلا مؤشر على أن التقية سمة من سمات السلوك الإنساني للجماعات كافة، بغض النظر عن الخلفية السياسية أو الدينية أو العرقية لهذه الجماعات.

حيوية المعنى في شعائر عاشوراء

تبدأ ذكرى عاشوراء في الأول من المحرم من كل عام حتى العاشر منه. وقد تستمر أربعين يوما هي فترة الحداد في التقليد العربي  الإسلامي المتبع. غير أن الأيام العشرة الأول من المحرم هي ذروة الذكرى، لأنها رحلة الحسين إلى كربلاء (وصوله إليها مطلع الشهر وحتى مقتله في العاشر منه). وتشتمل الذكرى على أداء شعائر عدة ضمن ما يعرف بالمأتم أو التعزية. وهذه الشعائر هي مجالس العزاء والمواكب الشعبية، ومنها مواكب الضرب على الظهور ب "الجنازيل".([53])  وتصل الشعائر إلى ذروتها عند تشبيه([54]) مقتل الحسين في العاشر من المحرم، ثم تختتم بعد ذلك بموكب كبير.

تجدر الإشارة إلى أن الشكل الشائع لعاشوراء على النحو المعروف لنا في الوقت الحاضر (أي رواية سيرة الحسين في محافل شعبية) تعود جذوره  على الأرجح  إلى القرن العاشر للهجرة/ السادس عشر للميلاد، عندما اعتلى الصفويون سدَّة الحكم في إيران، واتخذوا من التشيع عقيدة رسمية لدولتهم، بتشجيع من علماء شيعة كانوا قد هاجروا إلى إيران من جبل عامل في لبنان، وكانت إيران قبل ذلك التاريخ ذات أغلبية سنية.

وقد أضاف الإيرانيون للذكرى شيئا من تراثهم الفولكلوري، وطبعوا شعائر العزاء الحسيني بطابعهم القومي، وكان لهم دور في انتقالها إلى الهند وأذربيجان التركية والأناضول وبعض مناطق سيبيريا. ومع الوقت، تطورت هذه الشعائر بنوعيها المعروفين لنا في الوقت الحاضر،أي رواية سيرة الشهيد (ممسرحةenacted  في تجمعات شعبية حافلة) تليها المواكب، التي بدأت كتقليد متبع في القرن الرابع للهجرة/العاشر للميلاد وكانت حصيلة الدمج بين هذين النمطين في إيران إبان القرن الثامن عشر، ولادة ما يعرف في هذا البلد بمسرح التعزية ta,ziyah thaentre ([55]). ومما عزز من طقسية عاشوراء في إيران، قيام بعض الرسميين الإيرانيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ببناء التكايا الفخمة، التي تميزت بالفن المعماري ولوحات فنية تحكي قصة عاشوراء. ومع مرور الزمن، تحولت اللوحات المشخصة لآلام الإمام الشهيد، إلى أيقونات تشبه  من حيث الدلالة والمعنى  الأيقونات الكنسية في المسيحية. وهذا ما أسهم في ترسيخ عاشوراء  ببعدها الشعائري المكثف  سمة قومية للإسلام في إيران، في حين ظلت الذكرى في البلاد العربية، تقتصر على المناطق ذات الكثافة الشيعية، دون أن تأخذ صبغة قومية جامعة. غير أن لكربلاء في العالم العربي، معنى الدراما الاجتماعية  السياسية. إذ ارتبطت قصة الحسين ضميريا  دون بعدها الاحتفالي  بلغة الاحتجاج لدى المثقفين العرب.([56]) وهذا ما يشير إلى أن المعنى الماثل في قتل ابن بنت النبي والقتل الجماعي ظلما لفئة من المسلمين، حمل دلالات تجاوزت حدود الطائفة، وغدت عند الشيعة والسنة، رمزاً للاحتجاج ضد شطط الحكام في استعمال السلطة.

تعقد غالبية المآتم (مجالس العزاء) في الحسينيات، وهي نواد أسست خصيصا لإقامة المأتم الحسيني، ولهذا سميت بالحسينيات ومفردها حسينية. وتعقد بعض المآتم في الجوامع وفي منازل أسياد (يعتقد بانتسابهم لآل البيت) وهناك مآتم تعقد في بيوت وجهاء الطائفة، كما هو الحال في لبنان (انظر تاليا). وتتلى في المآتم سيرة مقتل الحسين ويقرأ الشعر في رثاء الشهيد وآل بيته وصحبه.  ومع تلاوة السيرة الحسينية، يبكي قارئ السيرة وهو يتلو فصولا من مأساة آل البيت، أو يقرأ قصيدة([57]) في رثاء شهدائهم بصوت شجي، فيبكي معه الحضور وهم يطلقون آهات التأسي التي تعبر عن التعاطف الوجداني مع الشهداء. وقارئ السيرة هو الذي يلقي قصائد الشعر، وهو الذي يبدأ الضرب على صدره بإيقاع منتظم. ويمزج بعض القراء في قراءاته بين العامية والفصحى. ويستطيع السامع معرفة البلد الذي تلقى فيه القارئ علومه الدينية من خلال لكنته التي غالبا ما تكون إما عراقية أو  إيرانية. وهناك تفاوت بين القراءات فبعضها مؤثر يتلى بصوت شجي، والبعض الآخر يتسم بالرتابة.

تأخذ الذكرى بعداً ميلودراميا في مواكب الضرب على الصدور وجلد الظهور بالجنازيل. وتفسر هذه المواكب على أنها إشارة للندم والتوبة لتخلي شيعة الحسين الأوائل عنه في الكوفة، مما أدى لقتله. وتجوب المواكب الشوارع لتنتهي إلى تجمع كبير في إحدى الحسينيات، ثم تبلغ الممارسات الشعائرية ذروتها في العاشر من المحرم، اليوم الذي وقع فيه استشهاد الحسين. في ذلك اليوم تجري تشبيه المقتل في الحسينينات، أو في فسحة من مكان يفتقر لتقنيات المسرح بالمعنى المعاصر للكلمة، وتنعدم فيه الفواصل بين الممثلين وجمهور المشاركين  ولا أقول المشاهدين، فالمشاهدة الشعبية في الحسينيات هي أيضا مشاركة في التذكار والتكرار الطقسي لكربلاء.

من حيث الشكل، تبدو عناصر الذكرى ثابتة ومتشابهة في بلدان مثل لبنان والعراق وإيران والبحرين، فهذه بلدان شرق أوسطية متجاورة بينها تزاور وتزاوج وحجيج إلى العتبات الشيعية المقدسة في العراق وإيران، حيث يتلقى علماء الطائفة علومهم الدينية. وقد يكون من المفيد تقديم عرض لشعائر الذكرى في البلدان المذكورة للتعرف على أوجه الشبه والاختلاف بينها. ففي كربلاء مثلا (وهي المدينة التي شيدت على خلفية مقتل الحسين،وشيد له مقام فيها) يحصل تجمع شعبي في الأول من المحرم من كل عام. وينقسم الجمع البشري إلى قسمين: قسم يضرب الصدور، وينتظم في حلقتين أو ثلاثة، كل واحدة منها تتكون من مئة إلى مئة وخمسين رجلا. أما القسم الثاني، فهم حملة الجنازيل، وهؤلاء يضربون ظهورهم بالسلاسل الحديدية في مسيرات تجوب الشوارع، وهم ويقسمون عادة إلى صفين متوازيين تخترقهما الأنوار والأضواء ومكبرات الصوت وقارئ يقرأ القرآن والسيرة الحسينية. ويتواجد القراء في السوق أو المقهى أو الجامع أو الحسينية، إلى أن يتم توزيعهم لمرافقة المواكب التي سيقرأون لها. ويعطي القارئ أجراً إلاّ إذا رفض، إذ يعتقد بعضهم بوجوب القراءة كنوع من الصدقة التي تقربه من الإمام الشهيد. وتستمر القراءات على مدى الأيام العشرة الأول من المحرم، وقد تستمر ليوم الأربعين في بعض المناطق، كما سبقت الإشارة.

في الأيام الأولى لذكرى عاشوراء في كربلاء ذاتها، يذهب الناس نهارا لأعمالهم كالمعتاد، ثم يتجمعون في المساء للسير في مواكب يتم تنظيمها حسب التراتبية الاجتماعية للأحياء والمهن. فهناك مواكب خاصة بالحرفيين كالحدادين والنجارين والصاغة، إلخ...، وهناك مواكب للعشائر وأخرى للأحياء السكنية، ويخرج المثقفون والشيوعيون موكبا لهم في العباسية.([58]) ولكل موكب قارئ خاص به، ويتم اختيار القراء من ذوي الأصوات الجميلة وأصحاب النسب الشريف، أو من أبناء العائلات المرموقة اجتماعيا. وتسير المواكب الواحد تلو الآخر ثم تلتقي في موكب واحد وقراءات موحدة. وغالبا ما يوزع الأكل والماء على المواكب عند وصولها إلى الحسينيات أو الجوامع، إيفاء بنذور كان المتبرعون قد قطعوها على أنفسهم أملا في تحقيق حاجة، كشفاء مريض أو عودة غائب، أو ولادة طفل بعد انتظار، وقد لا يكون النذر إلا من قبيل التقرب من الإمام الشهيد والأمل بشفاعته يوم القيامة.([59])

يجدر التذكير بأن معركة كربلاء التاريخية استمرت لساعات فقط، إذ بدأت المعركة بعد صلاة فجر العاشر من المحرم وانتهت في عصر ذاك اليوم، وهي بذلك واحدة من أقصر المعارك في التاريخ.غير أن التكرار الشعائري لها يوزع أحداثها على عشرة أيام. ويعتقد الكثير من عامة الشيعة أن المعركة حصلت فعلا وفق العرض الطقسي الذي يستغرق الأيام العشرة الأُول من المحرم. ولهذا الأمر مغزاه الهام.فقد حلت عناصر الأسطورة  بما تحمله من تكثيف وترميز لواقعة كربلاء  محل الوقائع التاريخية لها. فشعائر الذكرى تركز على دلالة الحدث ومعناه، مما يتطلب وقتا أطول لاستيعاب المعاني التي تشير إليها الأسطورة. ويسهم الإسهاب في ذكر البطولات والمآسي وسرد الإضافات التي أسبغت على قصة الحسين وأدمجت بالوقائع التاريخية، يسهم في وصف وتعداد المحرمات التي انتهكها جند يزيد بن معاوية.ولهذا، يجد المتتبع لوقائع الذكرى، أن للشعائر والعناصر الأسطورية وظيفة تعبوية. فهي تشحن مشاعر الحاضرين باستحضار مظلمة تاريخية، وتوظف ذلك ضد سلطة الحاضر، خاصة في أوقات الاضطراب السياسي أو الاجتماعي. ففي أوقات كهذه تصبح الذكرى إطار لصياغة المعارضة الضمنية أو الاحتجاج الصريح، حسب ما تمليه الظروف السائدة وقت حلول الذكرى.

في الأيام الثلاثة الأُول من عاشوراء، تستهل الذكرى، في كربلاء ذاتها بالشؤون السياسية والاجتماعية العامة وبالقراءات الشعرية. وفي اليوم الرابع، يبدأ تشبيه موت أحد أبناء آل البيت، العباس أو القاسم أو علي الأكبر، بتلاوة سيميائية لقصته.مثلا في اليوم الذي تكرس فيه الذكرى لمقتل القاسم، تتلى قصائد عن الحب والجمال والتغزل بالشباب، إشارة إلى أن المقتول من آل البيت  المحتفى بذكراه في ذلك اليوم  كان عريسا في مقتبل العمر. وفي يوم التاسع من المحرم، أي ليلة العاشر منه، وهي ليلة مقتل عبد الله  الابن الرضيع للحسين  يوزع الحليب على الأطفال، للدلالة على أن المقتول، المحتفى بذكراه في تلك الليلة، كان طفلا رضيعا.

أما يوم عاشوراء، أي عاشر المحرم، فيكرس في كربلاء وفي عموم بلدان الشيعة، لتشبيه مقتل الحسين.وهو يوم عطلة رسمية تبدأ فيه الاستعدادات للاحتفال الكبير منذ الفجر، حيث تتجمع في ليلة عاشوراء مواكب رجال يلبسون الأكفان البيضاء ويضربون رؤوسهم الحليقة بقطع خشبية حتى الفجر لتخديرها، تمهيدا للاحتفال الرسمي الذي يبدأ مع خروج مواكب "اللطّيمة" و "الضريبة" في الصباح. عندئذ، يضرب هؤلاء رؤوسهم بالمدى وصدورهم بالأيدي وظهورهم بالجنازيل. ويرافق موكب "اللطّيمة" بوق تنطلق منه الصيحات وفريق من المشاركين يدعى "الشواقيف"  أي حملة القطع الخشبية. ومسؤولية الشواقيف هي مد القطع الخشبية كحاجز يحول بين الرؤوس والمدى وذلك لمنع "الضريبة" من تجاوز حدود المعقول في الضرب على رؤوسهم، حتى لا تتأذى من المدى. ثم ينهي "الضريبة" مسيرتهم ما بين التاسعة والعاشرة صباحا، ويذهبون إلى الحمَّام بالتناوب وبعد ذلك تلتقي جموع المواكب في الحسينية، حيث يقام المأتم الرئيسي ثم تختتم المراسيم بتشبيه مقتل الحسين.

يتم انتقاء الممثلين لتشبيه المقتل على أساس من تراتبية دينية  اجتماعية، كما هو الحال في تنظيم المواكب فشبيه الحسين يتم اختياره من الأسياد (الذين يعتقد بانتسابهم لسلالة النبي). ويمثل دور أنصار الحسين أشخاص من عامة الناس عرفوا بالتدين والتقى. أما دور عسكر يزيد بن معاوية، فيقوم به أشخاص عرفوا بالانحطاط المسلكي أو التشوه الخلقي، كالخرسان والعوران.ورغم أن دورا كهذا هو إمعان في الحط من شأن هؤلاء، إلا أنهم يتمثلون الدور بحماس، اعتقاداً منهم بأن المشاركة من جانبهم في إكمال مشاهد مقتل الحسين تطهر حالهم وتعلي من شأنهم. ويستمر تشبيه المقتل ثلاث ساعات أو أربعا. وفي تلك الأثناء، يقوم ممثلو دور أبناء مسلم بن عقيل (ابن عم الحسين ومبعوثه إلى الكوفة) بالدوران حول حلقة الشبيه وهم يصرخون: "العطش العطش يا جداه"، إشارة إلى مقتل الحسين وهو عطشان، عندما حالت قوات ابن زياد بينه وبين ماء الفرات.

ولا تختلف تفاصيل الشعائر كثيراً في البحرين أو لبنان أو إيران، عنها في كربلاء ذاتها. ففي البحرين، مثلا، تعقد ثلاثة مآتم يوميا في الصباح والظهيرة والمساء، وتتلى فيها وقائع كربلاء وسيرة شهداء آل البيت، وذلك حتى السابع من المحرم، حيث تبدأ المواكب الرسمية بالخروج إلى الشوارع. وتخرج المواكب عادة في الليل ما عدا يوم عاشوراء، حيث تخرج صباحا وعصرا فقط، والبحرين هي الدولة الخليجية الوحيدة التي تخرج فيها مواكب اللطم إلى الشوارع، فيما يمارس اللطم داخل الحسينيات في الدول الخليجية الأخرى.([60]) ويخرج كل مأتم أو حسينية موكبا وكما هو الحال في كربلاء، تتبع مواكب البحرين تراتبية الأحياء والمهن. ففي مدينة المحرق، مثلا تسمى الأحياء بمهن سكانها، وهناك مأتم خاص بالبنائين وآخر بالصاغة وثالث بالحدادة إلخ...، كما توجد مآتم للجماعات الإثنية المختلفة، فمثلا، للشيعة من أصل إيراني مأتم يخرج موكبه الخاص به.([61])

في اليوم السادس من المحرم، تبدأ في حسينيات البحرين التلاوات التي يترافق معها تشبيه مقتل أحد أبناء آل البيت، بعد أن تكون التلاوة قد سردت فضائله. والشائع أن يتم تشبيه مقتل خمسة من آل البيت، خلال الأيام الأربعة أو الخمسة الأخيرة من الذكرى، وهؤلاء هم: العباس، القاسم، علي الأكبر، عبد الله الرضيع والحسين. ووقائع سير الشهداء الخمسة، مستقاة  أو مستوحاة  من مبالغات وردت في رواية أبي مخنف في تاريخ الطبري، ومن إضافات أسطورية لاحقة، وردت في كتابات الشيعة الشعبية .

ومن أبرز قصص الشبيه في عاشوراء البحرين، مثلا قصتا العباس والقاسم (ابن الحسن، الشقيق الأكبر للحسين)، فضلا عن قصة الإمام الحسين، الذي تستقى الذكرى معناها من شهادته. وأحيانا تشتمل قصص الشبيه على بعض أنصار الحسين البارزين مثل الحر الرياحي، الذي ترك قوات الكوفة وانضم للحسين وقاتل ببسالة منافحاً عنه إلى أن استشهد بين يديه. وقد تشتمل المشابهات أيضا على مشهد دفن الشهداء في منطقة الغاضرية.([62])

يلقب العباس في قراءات السيرة الحسينية بقمر بني هاشم، لما ذكر عن وسامته وعلو همته. إذ تروي كتابات الشيعة، عن العباس أنه لم يحتمل رؤية الحسين والعيال عطشى أثناء المعركة، فخرج لإحضار الماء، فإذا بسهام الخصم تنال منه فتقطع كفيه، فيحتوي إناء الماء بذراعية، ثم يقتل وهو في طريق العودة إلى الخيمة قبل أن يتمكن من إيصال الماء للعطشى. في شبيه العباس البحرين، تلعب كفه المقطوعة دوراً في الإشارة إلى حمية الشهيد. وقصة العباس  كما تحكيها السيرة  هي مقاربة لما ذكر في التاريخ عن جعفر بن أبي طالب  أحد أبناء عمومة النبي وابن عم الإمام علي، وأحد أوائل شهداء الإسلام في معركة مؤتة.([63])  فقد عرف جعفر بسمات الشخصية المنسوبة للعباس، واشتهر عنه أنه عندما بترت كفاه في مؤتة، احتوى علم المسلمين بذراعيه وأسنده إلى صدره ليحول دون سقوطه على الأرض، ولهذا لقب بالطيار وبذي الجناحين.

ويتخذ شبيه القاسم  الذي لم تثبت قصته تاريخيا كما ترويها الأسطورة  يتخذ تقليد زفة عريس في مشهدين: المشهد الأول، يلبس فيه الشبيه بدلة العريس، وتطفأ الأضواء فيما تحمل الشموع ويزف الشبيه تحف به الشموع في عتمة الليل من كل جانب. وفي المشهد الثاني، يشاهد الفتى العريس محمولا على الأكتاف ومزملا بكفن ملوث بالدماء، إشارة لعودته شهيدا في ليلة عرسه.

في هذه القصة أيضا محاكاة لأسطورة بابلية قديمة، هي أسطورة تموز الذي يقتل، فيما الحبيبة عشتار تظل تبحث عنه وتحزن العمر على فراقه. وعشتار، في شبيه القاسم (ابن الحسن)، هي سكنية (بنت الحسين)، التي تذكر قراءات عاشوراء أنها خطبت للقاسم عشية المعركة. ومحاكاة أسطورة تموز تبدو أوضح ما تكون في شعائر عاشوراء عند شيعة لبنان، حيث "العرس  المأساة" يأخذ مكانه في مآتم النساء اللواتي يقمن باختيار فتى وفتاة للقيام بشبيه العروسين وسط الندب والبكاء وتخضيب الأكف بالحناء (تخضيب الأكف بالحناء تقليد تمارسه النساء البدويات والريفيات في عموم العالم العربي، وهو مرتبط بمناسبات الفرح لا الحزن، إلا أن التخضيب بالحناء في شبيه القاسم، تقصد منه الإشارة إلى أن القاسم قد عاد في ليلة عرسه مزملا بدمائه بدلا من الحناء، الذي يشترك مع الدم بخاصية اللون الأرجواني القاني). وفيما القارئة تروي سيرة القاسم وسكينة، تردد النسوة خلفها مرثاة باللهجة المحكية لشيعة الجنوب اللبناني. تقول المرثاة: "من عظم المصاب سكينا (سكينة بنت الحسين)/ وين جدي (النبي) وين حيدر (الإمام علي) وينا (أينه) / وين جبرائيل وملوك السما/ ينظرون حسين لمن (لما) ارتمى / جاسم العريس حنوه بالدما/ وليش يا زهرة (أم الحسين  فاطمة بنت النبي  الملقبة بالزهراء) ما تحنينا".([64])

للمآتم في لبنان تراتبية اجتماعية لها صبغة سياسية واضحة. فرغم وجود حسينية في كل قرية شيعية تمارس فيها الشعائر بصيغتها الدينية والفلكلورية، إلا أن مآتم من نوع خاص تقام في منازل الشخصيات المتنفذة من الطائفة. فمثلا، كان كامل الأسعد، رئيس مجلس النواب الأسبق يحرص على إقامة مأتم في منزله، رغم أنه لم يعرف عنه التدين.([65]) ويحرص نبيه بري، رئيس حركة أمل والرئيس الحالي لمجلس النواب، على عقد مأتم في منزله كذلك. ويعتبر عقد المآتم في منازل وجهاء الطائفة، مقياسا لنفوذهم في الأوساط المحسوبة عليهم في مناطقهم الانتخابية، خاصة إذا ما كان الوجيه زعيم تنظيم سياسي، أو يجمع في شخصه بين الوجاهة الاجتماعية التقليدية، والنفوذ السياسي أو الاقتصادي في الحاضر.

أما المثقفون الشيعة، فيشغلون الحسينيات كنواد تعقد فيها المحاضرات الثقافية، فضلا عن الاجتماعات العامة في المناسبات السياسية الهامة. وقد برز هذا الدور الثقافي  السياسي للحسينيات إبان الحرب الأهلية في السبعينات والثمانينات، حيث كان كتاب شيعة بارزون من اليسار اللبناني، مثل حسين مروة ومهدي عامل،([66]) يعقدون ندواتهم  الثقافية  في   الحسينيات.([67])

تجدر الإشارة إلى أن خريطة التوزع السياسي لشيعة لبنان ظهرت خلال العقدين الأخرين، في ثلاثة مآتم كبرى([68]) هي: المأتم الحاشد الذي يعقده حزب الله في مناطق البقاع والنبطية والضاحية الجنوبية من بيروت، ويشارك فيه عشرات الآلاف، وهو أكبر المآتم عددا وأكثرها تشددا في ممارسة الشعائر، ويليه من حيث الحجم، المأتم الذي تقيمه حركة أمل في حسينيات الضاحية الجنوبية من بيروت.

أما المأتم الثالث، فتعقده المؤسسة العاملية، التي يشرف عليها المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى برئاسة الشيخ محمد مهدي شمس الدين. وهذا الاحتفال أقرب إلى مناسبة وطنية عامة منه إلى مأتم. إذ يأخذ هذا الاحتفال، طابع تجمع لبناني عام يحضره مندوبون رسميون عن الدولة والطوائف الإسلامية والمسيحية وأعضاء من البعثات الديبلوماسية. ويعقد هذا المجلس في العاشر من المحرم فقط، ويقتصر على الخطبة الرسمية التي يلقيها الشيخ شمس الدين، وخطب الوفود من رجال الدولة وزعماء الطوائف الإسلامية والمسيحية. وتتضمن الخطب في العادة شؤون الساعة من قضايا سياسية واجتماعية، وبعضها يعرج على ما يجب تعلمه من ثورة الإمام الحسين ضد الظلم.([69])

وكما هو الحال في البحرين والعراق، تتلى السيرة الحسينية في لبنان موزعة على عشرة أيام، في المآتم التي تقام في الحسينيات والجوامع.وقد تروى في اليوم الأول قصة "مفاوضات" مسلم بن عقيل، مبعوث الحسين إلى الكوفة، رغم أن الرواية التاريخية لمقتل مسلم لا تذكر حصول مفاوضات، بل تذكر مقتل مسلم بعد الإيقاع به عن طريق مخبر دسه ابن زياد بين أنصاره، لكشف خطته وكشف مناصريه من أهل الكوفة .

تلي المآتم المسيرات (أو المواكب، كما تسمى في العراق والبحرين). ولم يكن في لبنان قبل الحرب الأهلية في سبعينات هذا القرن، سوى موكب واحد هو موكب بلدة النبطية في الجنوب اللبناني. وقد تكاملت في عاشوراء النبطية مشاهد الفولكلور الشعبي وطقوس الأعياد الدينية والمناسبات الموسمية. ففي تجاوب مع احتياجات الذكرى، تنشط في البلدة حركة بيع وشراء، حيث يشتري الناس الأقمشة السوداء والأحذية والحناء والمأكولات، مثل الهريسة (فطيرة محلاة بالسكر) والحلويات والمرطبات.وقبل الحرب الأهلية اللبنانية اقتصر تشبيه مقتل الإمام الحسين على النبطية، حيث كان العرض يقام في ساحة البلدة، إلى أن تمت إقامة مسرح في الثمانينات لهذا الغرض.

في تشبيه المقتل في النبطية، يظهر شبيه الحسين ممتطيا جواده، الملقب بذي الجناح، وهو يتلقى طعنات جند الكوفة. ثم لا يلبث أن يسقط عن حصانه تحت وطأة الطعن. بعد ذلك يقوم شخص بحركة يفهم منها قطعه رأس الشهيد، فيدرك الحاضرون أن ذلك الشخص هو شمر بن ذي الجوشن، الذي تذكر الروايات التاريخية على أنه كان قاطع رأس الحسين في المعركة. ثم تظهر خيل تضرب جسد شبيه الحسين بحوافرها إشارة إلى إمعان جند الكوفة في التمثيل بجثة الشهيد. وفي المشهد الختامي، يظهر فرس الحسين وهو عائد إلى خيمة النساء وحيدا، في إشارة إلى سقوط فارسه في ساحة القتال.

بعد تشبيه المقتل، يبدأ اللطم على الصدور وضرب الرؤوس. والمنذورون للإمام الحسين، هم أكثر من يشارك في اللطم والضرب. وهناك اعتقاد بأن الملائكة تشارك في العزاء وتساعد على بلسمة جراح "الضريبه".([70]) وكان اللطم وضرب الرؤوس يقتصران على بلدة النبطية قبيل الحرب الأهلية اللبنانية، غير أن هذه الممارسات امتدت لمناطق الوجود الشيعي في ضاحية بيروت الجنوبية ومنطقة بعلبك في البقاع اللبناني، إثر صعود حزب الله وتصاعد حركة المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان ضد الاحتلال الإسرائيلي. وتشهد المناطق المذكورة تجمعات حاشدة في الذكرى السنوية لعاشوراء، ترفع فيه صور الخميني وموسى الصدر، ومؤخرا رفعت صور لخامنئي، الزعيم الروحي الحالي لإيران.

تجدر الإشارة إلى أن النساء غالبا ما لا يشاركن في تشبيه مقاتل آل البيت في الساحات العامة أو الحسينيات، رغم أن الوقائع التاريخية للمعركة تذكر وجود خيمة لنساء وأطفال من آل البيت رافقوا الحسين في رحلته إلى الكوفة، ولابد أن هؤلاء شهدوا وقائع المعركة ومقاتل رجالهم. ومع ذلك تقتصر مشاركة النساء في عاشوراء على مآتم نسوية تعقد في البيوت، حيث تقرأ إحدى النسوة مآتم الحسين وسيرة عذاباته. وفي المواكب تشارك النساء كمشاهدات فقط.

غير أن لزينب  شقيقة الحسين التي رافقته إلى كربلاء  حضورا رئيسيا في قراءات عاشوراء. إذ تلعب زينب في السيرة الحسينية "{...} الدور الذي تلعبه مريم بالنسبة للمسيح. لكن الفارق الأساسي يمكن في انتقال العلامة من إطار الجنس والحب في أسطورة أدونيس وعشتروت إلى الأمومة التي تحتضن الشهادة في سيرة المسيح، وإلى إطار الأخوة التي تلعب الدور نفسه في واقعة كربلاء، ذلك أن الفكر الديني المثالي أعطى للمرأة دورا يتجاوز العشق الجنسي ليضعه في إطار أكثر {...} تساميا وحوَّلها من حبيبة إلى أم في المسيحية  وإلى أخت في الإسلام الشيعي. والسيرة الحسينية ترسم لزينب إطارا يكاد يكون خارقا من حيث شجاعتها وقدرتها على الاحتمال. إنها الشخصية الرئيسية الثانية في كربلاء، فهي التي تستقبل ببسالة جثث أهلها المستشهدين واحداً إثر آخر، وهي الخطيبة المفوهة التي تقف أمام يزيد برباطة جأش وإمعان في التحدي ومتابعة المواجهة بعد انفضاض المعركة".([71])

يلحظ المتتبع لوقائع الذكرى أن ممارسة الشعائر تتسم باللاتراتبية. فأبناء الطائفة من مختلف فئات السلم الاجتماعي يشاركون فيها على نحو ما من المساواة  على مستوى الوجدان الديني. وهذا ما يعزز التماسك الداخلي للطائفة ويعيد إنتاج وحدتها. إلا أن المرء يلحظ بالمقابل، بأن هذه المناسبة الحيوية لتماسك الطائفة، تنطوي من جانب آخر، على تراتبية تدل عليها الرموز والإشارات العلامية التي تزخر بها شعائر الذكرى. فالوقائع الواردة فيما تقدم تشير إلى تراتبية إجتماعية في مواكب المهن ( في ذكرى كربلاء ذاتها ) وتراتبية  اجتماعية  إثنية (في مواكب البحرين) وتراتبية اجتماعية  سياسية (في مجالس العزاء في لبنان) وتراتبية دينية بين آل البيت وعامة الشيعة (في تلاوة السيرة وشعائر الشبيه في عموم البلدان التي تمارس فيها هذه الشعائر). تبدو التراتبية الدينية، أيضا، في إيماءات عدة بتضمنها أداء الشبيه. فشبيه آل البيت تسند عادة لأشخاص يعتقد بانتسابهم لآل البيت، ويتصفون بالوسامة وجمال الصوت (لصوت المنشد في عاشوراء دلالات أخلاقية وجمالية تميز الشخصيات الخيرة، أي آل البيت وأنصارهم). وتسند أدوار أنصار آل البيت لأشخاص من عامة الناس عرفوا بالورع والتقى، فيما تسند أدوار جند الكوفة للمنبوذين بسبب شذوذ مسلكي أو تشوه خلقي. وتنطوي المرثاة بمجملها على ما أسماه الشاعر اللبناني شوقي بزيع، ب "تراتبية التفجُّع" بين آل البيت وأنصارهم،([72]) فتأجيج المشاعر يبدأ عندما يشرع القارئ في رواية مقاتل آل أبي طالب، ثم يتواصل التصعيد الوجداني مع مقتل علي الأكبر والعباس والقاسم وعبد الله الرضيع، إلى أن يبلغ ذروته عند سقوط الحسين، فادي الجماعة وشفيعها يوم القيامة. على أن ذروة التأسي على الحسين تعكس مجددا توحد الجماعة وإعادة إنتاج تكافلها على أرضية الإيمان بإمامة الشهيد.

وهكذا في كل عام، تتكرر شعائر الذكرى مرئية ومسموعة ومشبهة. وللشبيه فيها  كما للشعائر  مضامين وإيماءات معروفة سلفا لجمهور المشاهدين/ المشاركين. والشبيه هو عرض مسرحي يشير إلى المضامين الدينية والسياسية للشهادة، أكثر بكثير مما يهدف إلى تمثيل دور الشهيد. ورغم الاعتقاد السائد بأن تمثيل المقتل يقتصر على الحسين دون باقي الشهداء، إلا أن الشبيه يحصل في حالات أبرز شهداء آل البيت، والأكثر تميزا بين أصحاب الحسين.

وفيما تتسم الشعائر بالثبات النسبي من حيث الشكل، فإن مضامين قراءتها تتغير من عام لعام، تبعا للظروف السياسية المحلية في البلد المعني، أو تلك الظروف الدولية التي تمس عموم العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط.وقد تتطرق الخطابات لأوضاع بلاد في العالم الثالث يتماثل حالها مع حال العرب والمسلمين.وغالبا ما يتم ربط مضمون ما يجري في الحاضر  محليا أو عالميا  بالمعاني التي حملتها كربلاء الحسين،([73]) فلكل عصر ولكل بلد حسينه ويزيده.

في العام 1967، العام الذي اندلعت فيه حرب حزيران بين العرب وإسرائيل (وهي الحرب التي احتلت فيها إسرائيل باقي أراضي فلسطين  الضفة الغربية وقطاع غزة  فضلا عن الجولان من سوريا وسيناء من مصر)، في ذلك العام تمحورت قراءات عاشوراء في كربلاء ذاتها حول الحرب، وقورنت عذابات الفلسطينيين في تلاة السيرة الحسينية بعذابات آل البيت، فكان شعب فلسطين نظير الإمام الشهيد، فيما كان الاحتلال الإسرائيلي نظير يزيد بن معاوية وجنده الملعونين. وفي العام 1968 (العام الذي اغتيل فيه إرنستوتشي غيفارا) كان غيفارا في قراءات السيرة الحسينية، في كربلاء أيضا، صنو الإمام الشهيد، ورمزا من رموز التضحية والفداء للإنسانية جمعاء. وأما الاستخبارات الأميركية ال CIA  (التي ذكر بأنها كانت وراء اغتياله)، فماثلت في القراءات جند يزيد بن معاوية.([74])

كذلك شهد العالم كله على شاشات التلفزيون، كيف أن ذكرى عاشوراء في إيران في العام 1978، حفزت على الثورة ضد النظام الشاه، وبينت كيف أن الأمة الإيرانية بمختلف فئاتها الدينية والعرفية كانت تعيش أزمة وطنية عامة استحال معها استمرار النظام السياسي في ذلك البلد على حاله، واستحال معها استمرار الإيرانيين على المنوال نفسه. وقد لاحظت    الكاتبة هغلاند HEGLAND في حينه، التغير الذي طرأ على مضمون عاشوراء في قرية علي آباد الإيرانية. ففي عاشوراء ذلك العام، تحول الحسين من شفيع intercessor ترجى شفاعته عند وقوع مرض أو حلول مصيبة، إلى نموذج أعلى للثائر الشهيد، الذي فضل الشهادة على العيش الذليل.([75]) كما لاحظت الكاتبة المذكورة، أن مواكب عاشوراء لذلك العام، لم تقتصر على الشيعة، بل شارك فيها الإيرانيون من مختلف الطبقات والإثنيات والطوائف، مستلهمين حس الثورة من المناسبة. أي أن منطق الثورة revolution في ذلك العام، غلب منطق الكمون concealment of faith فحلت الثورة بذلك، محل التقية، التي لجأ لها الشيعة طويلا في عهد الشاه محمد رضا بهلوي.

في لبنان، شهدت احتفالات عاشوراء تكثيفا ملحوظا واتخذت مضامين جديدة إبان العقود الثلاثة الأخيرة التي شهدت الحرب الأهلية والاجتياحات الإسرائيلية المتكررة، فما نتج عن الحرب من تهجير جماعي وسقوط مئات الآلاف ما بين قتلى ومفقودين، اتخذ طابعا دراميا صارخا، تماثل في دراميته مع عاشوراء من حيث تعدد وجوه المأساة. وقد عبر الشيعة عن تفاعلهم مع هذه الأحداث باستلهام المعاني الكفاحية من كربلاء الحسين. ففي معالجة الشؤون الداخلية اللبنانية، مثلا، تركزت خطابات عاشوراء على حقوق المحرومين (أي أبناء الطائفة الشيعية التي كانت تحس بالغبن ضمن تركيبة التوازنات الطائفية في لبنان). وفي مواجهة تبعات الحرب الأهلية الطاحنة، دعت الخطابة في ذكرى عاشوراء إلى الوحدة الوطنية وسيادة القانون على جميع المواطنين بالتساوي. وفيما يتعلق بالاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قرى الجنوب ذي الكثافة الشيعية، ركزت الخطب على وحدة الشعب اللبناني في مواجهة الاحتلال، أي أن الذكرى في سياق المواجهة مع إسرائيل، كانت مناسبة لمخاطبة اللبنانيين بمختلف أطيافهم السياسية لا الشيعة وحدهم وإثر اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان في العام 1978، خرجت مسيرات عاشوراء متراصة الصفوف يدا بيد وكتفا إلى كتف، في إشارة إلى التماسك الوطني في مواجهة الاحتلال، فيما لوحظ أن الصفوف لم ترص بهذا الشكل عندما كان الوجود الفلسطيني المسلح في جنوب لبنان موضع انتقاد بعض اللبنانيين.([76])

لقد أعطت أسطورة الإمام الشهيد للطائفة الإمامية العنصر العقائدي اللازم لبلورة شخصيتها كطائفة في إطار الدين الإسلامي. ويبين تكرار الشعائر في كل عام، كيف توظف الرموز الدينية للتعبير عن مشاغل دنيوية. فكان التكرار الطقسي لكربلاء  عبر أداء شعائر التعزية  هو الجسر الذي يصل الأسطورة بالتاريخ، والمقدس بالدنيوي. ومع مرور الزمن، غدت شعائر التعزية وعاء أيديولوجيا لإمامة الشهيد، وصارت الشهادة هي الوسيط الرمزي لتفسير علاقات السلطة السائدة، فالشهيد في حال الجماعات المهمشة سياسيا، ليس إلا مقولة عقائدية تعكس الموقع السياسي الهامشي لتلك الجماعات. بذا، تُرَسِّمُ إمامة الشهيد عند الشيعة، الحد الأيديولوجي، الذي به، ومن خلاله، تميز الطائفة الإمامية نفسها عن أهل السنة والجماعة في مجتمعها الأوسع.


([1])من مؤلفات هذه الفترة: دلائل الإمامة لابن رستم الطبري (من علماء الإمامية في القرن الرابع     للهجرة)، تحف العقول عن آل الرسول للحرّاني (من أعلام القرن الرابع أيضا) ، مقتل الحسين للخورزمي (المتوفى في العام 568 هجرية) ، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (المتوفى في العام 588 هجرية)، مثير الأحزان لابن نما الحلي (المتوفى في العام 645 هجرية)، تذكرة الخواص لسبط بن جوزي (المتوفى في العام  654 هجرية)، اللهوف في قتلى الطفوف، لابن طاووس (المتوفى في العام 664هجرية).

([2])منها على سبيل المثال: لواعج الأشجان، والمجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية, لمؤلفهما محسن الأمين، مقتل الحسين أو حديث كربلاء لعبد الرزاق المقرم، والخصائص الحسينية لجعفر التستري.

([3])من المراثي: المنتخب لفخر الدين الطريحي، الفوادح الحسينية والقوادح البينية، للشيخ حسين بن محمد بن أحمد الرازي.

([4])من ذلك  على سبيل المثال لا الحصر  ذكرى الحسين بن علي، للإمام السيد عبد الكريم السيد علي خان، ومختصر نهضة الحسين لمؤلفه هبة الدين الحسيني.

([5]) وهاتان عبارتان تردان في مؤلفات وخطب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، عن عاشوراء واستشهاد الحسين فيها. انظر على سبيل المثال إحدى خطبه بهذه المناسبة في صحيفة النهار اللبنانية  (18 تشرين أول،  1983).

([6])قصيدة الشاعر السوري نزار قباني وأخرى للشاعر المصري أمل دنقل. وثالثة للشاعر الفلسطيني، أحمد دحبور بعنوان: "العودة إلى كربلاء"، وللكاتب المصري عبد الرحمن الشرقاوي عمل مسرحي بعنوان: "الحسين ثائرا ، الحسين شهيدا" بيروت 1985، أنظر أيضا الحيدري (1999، ص382 90)، حيث يجمل الكاتب ما ورد لدينا أعلاه، وأعمال أخرى عديدة في الأدب والفن بميادينهما المختلفة في العالم العربي، فضلا عن حضور خاص لكربلاء في آداب العراق وفنونه.

([7])من ذلك، الآية الكريمة: {وحملته أُمه كُرهاً ووضعته كُرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}.

تفسر بعض المصادر الشعبية الشيعية هذه الآية على أنها نزلت بالحسين وأنَّها تنطبق على حاله دون البشر قاطبة (انظر: ابن رستم الطبري، 1369ه  1949م، ص 72).

([8])EL 2ND edn., s,v. ( AL_ HUSAYN b. Ali b. Abi TAILB).

([9]) علي، 1950  1957، ج8، ص374.

([10])الخوارزمي، جزءان في واحد، 1367ه / 1948م، ج2، ص2.

([11]) البهادلي، 1385ه / 1965م،  ص174.

([12])ابن رستم الطبري، 1369ه  1949م، ص59  60.

([13])التستري، 1375ه  1956م، ج3، ص15.

([14])نصوص ألف بينها وحققها عبد الرحمن بدوي (1950، ص14 15) 

([15])التستري، 1375ه/ 1956م، ج3، ص19.

([16])الحلي، 1369ه/ 1950م، ص7، ابن طاووس، 1369ه/ 1950م، ص6.

([17])ابن شهر آشوب، 1375ه/ 1956م، ج3، ص209.

([18])المصدر نفسه.

([19])المصدر نفسه، ص229.

([20])الحلي، 1369ه / 1950م، ص11 12.

([21])ابن رستم الطبري، 1369ه  1949م، ص79، ابن شهر آشوب، ج3، ص299.

([22])ابن رستم الطبري، 1369ه  1949م، ص77.

([23])البهادلي، 1385ه / 1965م، ص180 181.

([24])المقرّم، 1376ه / 1956م، ص17.

([25])والصحيح عطشان، لأنها ممنوعة من الصرف لا تنون وهي على وزن فعلان ومؤنثها فعلي.

([26])الهاشمي 1386ه/ 1966م، ص15.

([27])والصحيح اثنا عشر، ملحق بالمثنى يرفع بالألف، وأما الجزء الثاني من الرقم فمبني على الفتح.

([28])ابن طاووس، 1369ه/ 1950م، ص15.

([29])الخوارزمي، جزءان في واحد، 1367ه / 1948م، ص187  188، وابن شهر آشوب، 1375ه/ 1956م، ج3، ص 240، ومنامات أخرى ذكر بأنه رآها وهو في الطريق إلى الكوفة (ابن الجوزي، 1383ه/ 1964م، ص253).

([30])المقرّم، 1376ه / 1956م، ص45.

([31])ابن طاووس، 1369ه/ 1950م، ص28 29. ووردت في مصادر أخرى نقلا عن هذا المصدر.

([32])ابن الجوزي، 1383ه/ 1964م، ص246.

([33])المصدر نفسه، وأيضا: علي خان، 1402ه/ 1982م، ص62، البهادلي، 1385ه/ 1965م،ص407.

([34])وابن شهر آشوب، 1375ه/ 1956م، ج3، ص258. وغالبا ما ترد الخوراق عن شجاعة الحسين إما نقلا عن أحد أئمة الشيعة أو عن الثقات من كتاب الشيعة الكلاسيكيين.

([35])تاريخ الطبري، ط 1960  1969، ج5، ص 453.

([36])ابن طاووس، 1369ه/ 1950م، ص55.

([37])ابن شهر آشوب، 1375ه/ 1956م، ح3، 212.

([38])ابن الجوزي، 1383ه/ 1964م، ص274.

([39])الحلي، 1369ه / 1950م، ص63، الأمين، لا.ت.ج5، ص144.

([40])البهادلي، 1385ه/ 1965م ص417.

([41])التستري، 1375ه  1956م، ص19.

([42])ابن شهر آشوب، 1375ه/ 1956م، ص217.

([43])المقرّم، 1376ه / 1956م، ص401.

([44])الحلي، 1369ه / 1950م، ص13.

([45])الخوارزمي  1367ه / 1948م،  ص91.

([46])ابن الجوزي، 1383ه/ 1964م، ص267.

([47])ابن طاووس، 1369ه/ 1950م، ص55.

([48])المصدر نفسه، ص59  61.

([49])العاملي، 1389ه/ 1969م، ص910.

([50])ابن طاووس، 1369ه/ 1950م، ص55.

([51])hegland, in keddie, ed. (1983):219- 35, khuri, 1990: 123_ 30

([52])يذكر الشاطبي في كتاب الاعتصام (الحزء الأول، ط 1416ه / 1996م، ص 104 107) عن ابن العربي، أنه اضطر إلى اتقاء أذى المخالفين له في الرأي ممن خالفوا أهل السنة في مسألتي الإمامة وعودة الإمام.

([53])وهذه الكلمة تحريف شعبي لكلمة جنازير الفارسية الأصل, وتقابلها بالعربية كلمة سلاسل.

([54])في مسرح التعزية في إيران يصطلح  تمثيل مقاتل الشهداء ب "الشبيه". وهذه التسمية أكثر دقة من كلمة تمثيل، فتصوير مقابل آل البيت، هو أقرب إلى تشبيه مقتل الشهيد لا إلى تمثيل دوره. ولمسرح التعزية  في إيران خصائص لاحظها المستشرقان شيلكوفسكي وفيرث (wirth in chelkowski, 1988: 13-23, chelkowski,1979)  في دراساتهما  لوقائع التعزية، منها، ملاحظتهما بأن ما يسمى حوارا في مسرح التعزية الإيراني هو أقرب إلى المنولوج منه إلى الحوار. وأرى أن هذه الملاحظة وغيرها مما ذكره هذان المستشرقان، يستحق اهتمام الدارسين العرب والمسلمين المتخصصين بمسرح التعزية وعموم المسرح الشرقي، فلهذا المسرح خصائصة التي يرى الباحثان ضرورة اجتراح مصطلحات خاصة بها، وتجنب استعارة مصطلحات المسرح الغربي الذي يختلف من حيث الشكل والمضمون.

([55])chelkowski, 1988: 13-23

([56])قصيدة الشاعر السوري نزار قباني وأخرى للشاعر المصري أمل دنقل. وثالثة للشاعر الفلسطيني، أحمد دحبور بعنوان: "العودة إلى كربلاء"، وللكاتب المصري عبد الرحمن الشرقاوي عمل مسرحي بعنوان: "الحسين ثائرا ، الحسين شهيدا" بيروت 1985، أنظر أيضا الحيدري (1999، ص382 90)، حيث يجمل الكاتب ما ورد لدينا أعلاه، وأعمال أخرى عديدة في الأدب والفن بميادينهما المختلفة في العالم العربي، فضلا عن حضور خاص لكربلاء في آداب العراق وفنونه.

([57])في لبنان، يبدأ القارئ قراءته بقصيدة رثاء للحسين وآل البيت، أو ينهي القراءة بقصيدة من هذا النوع. والقصائد هي لشعراء ممن عاصروا آل البيت وعرفوا بالتشيع لهم مثل الشريف الرضي والفرزدق والكميت. وبعض القصائد لشعراء معاصرين من أبناء الطائفة في العراق (النجف خاصة) أو جبل عامل في لبنان.

([58])لقاء مع العراقي عوني الكرومي وناجي عبد الأمير (بغداد: 19/12/1989).

([59])لمزيد من التفاصيل حول سعي عامة الشيعة إلى التقرب من الإمام الشهيد، انظر (AYOUB, 1978: 142-43, Thaiss, 1973: 165).

([60])لقاء مع الشاعر البحريني، قاسم حداد (عمّان: 4/5/1999).

([61])المصدر نفسه.

([62])في بلدة سنابس في البحرين يتم تشبيه دفن شهداء كربلاء، تقليداً لما جاء في الرواية التاريخية، أن قوما من بني أسد كانوا يسكنون قرب المعركة، قاموا بدفن الشهداء بعد مغادرة قوات ابن زياد للموقع. وتشبيه ذلك، يقتصر على قيام عدد من الأشخاص بإيماءات تشير إلى قيام بني أسد بدفن الشهداء وفي بعض الأحيان يتم في البحرين تشبيه مشهد نساء آل البيت اللواتي ذكرت كتب التاريخ أنهن أرسلن كالسبايا إلى دمشق بعد انتهاء المعركة (المصدر نفسه).

([63])وقعت معركة مؤتة في الثالث من جمادى الأولى من العام الثامن للهجرة (النصف الثاني من أيلول من العام 629 ميلادية)، بين المسلمين من جانب، والروم والغساسنة من جانب آخر. وقد خسر المسلمون فيها ثلاثة من قادتهم هم على التوالي: زيد بن حارثة جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، وذلك لتفوق الخصم عليهم بالعدد والعتاد، ثم آلت القيادة إلى خالد بن الوليد الذي أعدَّ للمسلمين خطة انسحاب منظم لتفادي المزيد من الخسائر في معركة غير متكافئة (كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف رجل فيما قارب عدد الروم والغساسنة مائتي ألف). وقد وقعت المعركة على خلفية قيام غساني بقتل الحارث بن عمير الازدي، المبعوث الذي أرسله النبي للغساسنة ليدعوهم إلى الإسلام. وقد لقب جعفر بعد استشهاده في مؤتة بالطيار وبذي الجناحان لقول النبي لأصحابه عشية استشهاد جعفر: "مر بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة له جناحان مخضب القوادم بالدم" (ابن الأثير، ج2، ط 1407 ه / 1987م).

([64])بزيع، "عاشوراء في إرث الشرق القديم: أدونيس، المسيح، المهدي"، جريدة السفير اللبنانية (بيروت 23/6/1994).

([65])لقاء مع الشاعر اللبناني شوقي بزيع (عمان: 30/5/1999).

([66])وقد اغتيل مروّة وعامل إبان الحرب الأهلية في الثمانيات في ظروف لم يتم الكشف عن ملابساتها.

([67])لقاء سبق ذكره مع الشاعر بزيع (عمان: 30/5/1999).

([68])المصدر نفسه. غير أن هناك مجلسا رابعا أقل حشدا تعقده دار الإفتاء الجعفري في بئر حسن في الضاحية الجنوبية (المؤلفة).

([69])تغطيات صحفية لذكرى عاشوراء في لبنان إبان الثمانينات والتسعينات، جريدة النهار اللبنانية، أنظر، على سبيل المثال لا الحصر، أعداد الصحيفة المذكورة في التواريخ التالية: (18/10/1983، 16/9/1986، 23/7/1991).

([70])تذكر المؤلفات الأسطورية للسيرة الحسينية أن مجالس عزاء انعقدت لرثاء الحسين بعد ولادته، "هي ثلاثون مجلسا: الأول منها انعقد فوق السماوات عند سدرة المنتهى ليلة ولادته والمبين للمصيبة الله والسامع جبرائيل وألف قبيل من الملائكة كل قبيل ألف ألف حين أمرهم (الله) بالنزول لتهنئة النبي بولادته (أي الحسين)، فقال إذا هنيته  عزه وقل له إن ولدك هذا يقتل مظلوما". وتضيف الرواية أن المجلس الثاني للعزاء انعقد في حجرة فاطمة، والثالث في حجرات زوجات النبي والرابع في مسجد النبي، وكان الراثي فيه تارة النبي وتارة جبرائيل (التستري، 1375ه / 1956م، ص108). تجدر الإشارة إلى أن الشيعة يقيمون مجالس عزاء حسينية عند فقدان عزيز لديهم، اعتقادا منهم بأن التذكير بمعاناة الحسين وآل البيت يخفف من المصاب فيتأسى الناس بالتماثل بين حزنهم على فقيدهم والحزن على الحسين وآل البيت.

([71])بزيع، "عاشوراء في إرث الشرق القديم: أدونيس، المسيح، المهدي"، جريدة السفير اللبنانية (بيروت 23/6/1994).

([72])لقاء سبق ذكره، مع الشاعر بزيع (عمان:30/5/1999).

([73])يذكر بزيع في المصدرين أعلاه حادثة اقتحام الدبابات الإسرائيلية لاحتفالات عاشوراء في شوارع النبطية وساحتها العامة في العام 1984، ورد الفعل العفوي للجموع المحتشدة على ذلك، فيقول: {...} المشهد الذي جرى في ساحات النبطية وشوارعها عام 1984 هو أحد هذه الفصول التي تجعل من كل فرد قابلا لكتابة السيرة وإعادة صياغتها. ذلك أن اقتحام الآليات الإسرائيلية للجماهير  المحتشدة حول المشهد الكربلائي أعاد إحياء المواجهة بين الفريقين في عملية تماه  واضحة المعالم بحيث تحول الإسرائيليون إلى "يزيد" العصر (المزدوجان في الأصل) وتحول الناس المحتشدون إلى "حسينيين" جدد (المزدوجان في الأصل) الأمر الذي دفع هذه الحشود إلى مواجهة الآليات العدوة بأجسادهم العزلاء دون تردد {...}". فكان ذلك المشهد كربلائيا "على الطبيعة" (بزيع، "عاشوراء في إرث الشرق القديم: أدونيس، المسيح، المهدي"، جريدة السفير اللبنانية (بيروت 23/6/1994)، واللقاء مع بزيع، المشار إليه أعلاه

([74])لقاء سبق ذكره، مع العراقي عوني الكرومي وناجي عبد الأمير (بغداد: 19/12/1989).

([75])hegland, in keddie, ed. (1983):219- 35

([76])لاحظ ذلك فؤاد إسحق خوري في نقاش لي معه حول صور لاحتفالات عاشوراء ظهرت على صفحات جريدة النهار اللبنانية في عقد الثمانينات.

عدد مرات القراءة:
4079
إرسال لصديق طباعة
 
اسمك :  
نص التعليق :