السادس: أن قول القائل: لقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليًّا إلا بخير كذب معلوم، فإنه لا يُعرف أن الله عاتب أبوبكر في القرآن، بل ولا أنه ساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل رُوى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في خطبته ((أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقَّه، فإنه لم يسؤني يوما قط)).
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
قوله: (وقال: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وقال في الهامش (51/ 72): (أخرج المحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب في أسباب النزول بأسانيدهم إلى ابن عباس في قوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنّهار سرّاً وعلانية}. قال: نزلت في علي بن أبي طالب. كان عنده أربعة دراهم فأنفق بالليل واحداً وبالنهار واحداً وفي السرّ واحداً وفي العلانية واحداً فنزلت الآية. أخرجه الإمام الواحدي في (أسباب النزول) بسنده إلى ابن عباس. وأخرجه أيضاً عن مجاهد. ثم نقله عن الكلبي مع زيادة فيه) إ. ه.
قلت: عبارته توحي بأن له طرقا كثيرة وانه صحيح، والحق انه خلاف ذلك كما سنبينه، وهولم يذكر من مخرجيه سوى الواحدي وهوقصور منه ناتج عن قلة معرفته بأمهات المصادر.
وقد أخرج قول ابن عباس هذا الواحدي (ص64)، والطبراني في (الكبير) (11164)، وابن أبي حاتم- (تفسير ابن كثير) (1/ 326) - وعزاه السيوطي في (الدر المنثور) (2/ 1) لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر، وقد ضعفه في (أسباب النزول) (ص35) وهوحري به فان طرقه وان تعددت تجتمع كلها في عبد الوهاب بن مجاهد عن مجاهد عن ابن عباس، وكذا قول مجاهد الذي أشار إليه رواه ابنه عبد الوهاب هذا، وهومتروك كما قال الحافظ في (التقريب) والذهبي (المغني). وقد كذبه سفيان الثوري، وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ترك حديثه.
وأما قول الكلبي فقد ذكره الواحدي دون اسناد. وهولا يغني شيئا فان الكلبي هذا هومحمّد بن السائب وهومتهم بالكذب، كما في ترجمته من (التقريب) وغيره. ثم ان الواحدي قد ذكر في كتابه (ص63) سبباً آخر لنزول هذه الآية وقد قدمه على هذا فلِمَ أعرض عنه هذا الموسوي؟ مع انه أصح منه، وأثبت.
قال شيخ الإسلام في (منهاج السنة) - أنظرالمنتقى (ص475) في ردّه على ابن المطهر في هذه الآية: (وهوكذب، والآية عامة في كل من ينفق أمواله، فيمتنع أن يراد بها واحدا لم يكن صاحب مال، ثم ما نسبته إلى عليّ يمتنع عليه، إذ من فعل ذلك كان جاهلا بمعنى الآية فان الذي ينفق سراً وعلانيةً ينفق ليلاً ونهاراً. ومن أنفق ليلاً ونهاراً فقد أنفق سراً وعلانيةً، فالدرهم ينصف نصفين ولا يتحتم أن يكون المراد أربعة دراهم، ولوكان كذلك لقال {وسرا} بالوأو{وعلانية} بل هما داخلان في الليل والنهار سواء قيل نصبا على المصدر اي إسراراً وإعلاناً، أوقيل على الحال مسراً ومعلناً. وهب أن علياً فعل ذلك فباب الانفاق مفتوح إلى قيام الساعة فأين الخصوصية؟ ولوكان انفاق أربعة دراهم خاصا به فلم قلت انه صار بذلك أفضل الأمة؟) إ. ه.
قلت: وما علاقة إنفاق أربعة دراهم بالإمامة؟ وهل من شروط الإمام أن يملك أوينفق أربعة دراهم؟ فيا للعجب ما يفعل الجهل بأصحابه! وما أظن عاقلاً يقرأ كلامه هذا حتى يضحك عليه وعلى سخافته ملء فيه! فنحن نناقشه في وجوب تقديم عليّ بالإمامة هويناقش بأنه كان يملك أربعة دراهم وقد أنفقها!!
وقد حصل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه من ذلك ما لا يدانيه فيه أحدٌ من الأولين ولا من الآخرين، كما ثبت في (صحيح البخاري) (1/ 126)، وغيره أن النبي صَلّى الله عليه وسلّم قال: (إنّ أمنّ الناس عليَّ في نفسهِ وماله أبوبكر) وفي رواية قال: (إنه ليس من الناس أحدٌ أمنّ عليَّ في نفسهِ وماله من أبي بكر بن أبي قحافة). وأخرج الإمام أحمد (2/ 253، 266)، وابن ماجة (94) ان النبي صَلّى الله عليه وسلّم قال: (ما نفعني مالٌ قطّ ما نفعني مالُ أبي بكر)، وفي رواية عند الترمذي (4/ 31) قال: (ما لأحدٍ عندنا يداً إلاّ وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فأن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مالُ أحدٍ قطّ ما نفعني مالُ أبي بكر ... ). وغير ذلك كثير وليس هذا موضع بسطه لكننا أحببنا الإشارة إلى ذلك، فأين هذا الفضل العظيم الذي حصل للصديق من أربعة دراهم يزعمون أن علياً أنفقها؟
وهل تسأوي هذه الدراهم الأربع شيئاً إذا ما قورنت بما أنفقه عثمان رضي الله عنه وخصوصاً في تجهير جيش العسرة، وهوجيشُ معركة تبوك؟ فقد أخرج الترمذي (4/ 32) عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال جاء عثمان إلى النبي صَلّى الله عليه وسلّم بألف دينار في كمّه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره، قال عبد الرحمن فرأيت النبي صَلّى الله عليه وسلّم يقلبها في حجره ويقول: (ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم) مرتين. فان كان الفضل والتقدم بما ينفقه الرجل في سبيل الله يكون عثمان رضي الله عنه خيراً من علي رضي الله عنه. بما بين الألف ديناروالأربعة دراهم من الفضل والقيمة.