مسودة
نظريةُ وِلايةِ الفقيهِ
"بين المؤيدين والمعارضين"
فيصل نور
فهرس الكتاب
المقدمة.
تمهيد وتعريف.
توطئة تاريخية.
بدايات ظهور نظرية ولاية الفقيه.
المعارضون.
النقد الروائي.
تهافت النظرية.
ولاية الفقيه عند أهل السنة.
فهرس الكتاب.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد،
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ﴾ الأنعام 14.
رغم البعد الزمني لنظرية ولاية الفقيه والذي يصل إلى قرنين من الزمان، إلا أنه لم يصبح شائعاً لغير المهتمين إلا بعد نجاح الخميني في تأسيس دولته في إيران عام 1979م وترجمة كتابه الحكومة الإسلامية.
وقد كُتب في هذه النظرية وسائر ما يتعلق به، الكثير من البحوث والكتابات بين إسهاب ومختصر لا يخرج القارئ من الكثير منها إلا بمزيد من الحيرة.
فرأينا رغم مرور عشرات السنين على التطبيق العملي لهذه النظرية على أرض الواقع أن نضع هذا المختصر لنبين حقيقة النظرية وما لها وما عليها، وذلك بسبب التأثير الواضح لها على مجريات الحوادث إلى يومنا هذا، وجل ما سنأتي على ذكره سيكون من داخل البيت الشيعي، فهذا أبلغ في تحقيق المقصود، ليخلص القارئ إلى الفهم الصحيح لهذه النظرية بعيداً عن آراء المخالفين لمذهب أصحابها.
ونسأل الله أن يوفقنا لما فيه الخير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فيصل نور
2013 م
تمهيد وتعريف
ولاية الفقيه مصطلح فقهي عند الشيعة تعني نيابة الفقيه الجامع لشروط التقليد والمرجعية[1] عن مهديهم المنتظر في ما له من صلاحيات مفوضة له من قبل الله عزوجل عبر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بزعمهم لإدارة شؤون الأمة.
ولم يختلف الشيعة في أصل المسألة، وإنما إختلفوا في حدود هذه الولاية، بين قائل بالولاية الخاصة أو المقيدة في الأمور الحسبية وهي الأمور التي لا يجوز فواتها إن تركت لحالها كالموقوفات العامة التي هي بحاجة الى من يتولى أمرها ولم يعين لها الواقف متولياً خاصاً، وكذلك أموال اليتامى والقاصرين الذين ليس لهم أولياء وما شابه ذلك. ولا يرى أصحاب هذا الرأي انها تتعدى إلى سواها من الأمور.
والرأي الآخر هو القول بالولاية المطلقة أو العامة، وأنها غير محدودة بتولي الأمور الحسبية، بل أن دائرتها أوسع بكثير وتشمل جميع صلاحيات الامام المعصوم "حسب معتقد الشيعة" في قيادة الأمة الإسلامية وإدارة شؤونها وتولي الحكومة الاسلامية.
وهذا الرأي الأخير هو موضوع كتابنا.
توطئة تاريخية
لعل من المسائل التي تغيب عن البعض أن مسألة الإمامة عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية لم تكن في بدايتها بالصورة التي نراها عليه اليوم، فالإعتقاد يومها كان مبنياً على أساس أن الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأولادة إلى يوم القيامة.
وقد وضعوا في ذلك عشرات الروايات، منها:
عن الصادق عليه السلام قال : الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حي يعرف([2]).
وفي رواية: من مات وليس عليه إمام حي ظاهر مات ميتة جاهلية، قيل: إمام حي؟ قال: إمام حي، إمام حي([3]).
وعن يعقوب السراج قال: قلت لأبي عبدالله: تخلو الأرض من عالم منكم حي ظاهر تفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم؟ فقال: لا، إذًا لا يعبد الله يا أيا يوسف([4]).
وعن عمر بن يزيد، عن أبي الحسن الأول قال: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية، إمام حي يعرفه، فقلت: لم أسمع أباك يذكر هذا، يعني: إمامًا حيًا، فقال: قد والله قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من مات وليس له إمام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهلية([5]).
وعن الصادق: إن الله لا يدع الأرض إلا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان، فإذا زاد المؤمنون شيئًا ردهم، وإذا نقصوا أكمله لهم، فقال: خذوه كاملًا، ولولا ذلك لالتبس على المؤمنين أمرهم، ولم يفرق بين الحق والباطل([6]).
وغيرها كثير..
وهي كما ترى مبنية على أساس أن الأرض لا تخلو من حجة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن في عام 260 للهجرة حدث ما لم يكن في الحسبان فقد توفي الإمام الحادي عشر عند الشيعة الحسن العسكري دون أن يعقب كما حقق ذلك بعض علماء الشيعة وهو الحق. فوقع الشيعة في حيرة كبيرة إذ ليس هناك من يعرف إمام زمانه الحي والظاهر حتى يفزع إليه في حلاله وحرامه أو يسمع له ويطيع؟
فأدى هذا الأمر بهم إلى إفتراقهم إلى عدة فرق:
فرقة قالت: إن الحسن بن علي حي لم يمت وإنما غاب، وهو القائم، ولا يجوز أن يموت، ولا ولد له ظاهرًا؛ لأن الأرض لا تخلو من إمام.
وفرقة قالت: إن العسكري مات وعاش بعد موته وهو القائم المهدي؛ لأنا روينا أن معنى القائم هو أن يقوم من بعد الموت ويقوم ولا ولد له، ولو كان له ولد لصح موته ولا رجوع؛ لأن الإمامة كانت تثبت لخلفه، ولا أوصى إلى أحدٍ فلا شك أنه القائم، والحسن بن علي قد مات لا شك في موته ولا ولد له ولا خلف ولا أوصى؛ إذ لا وصية له ولا وصي، وأنه قد عاش بعد الموت.
وفرقة قالت: إن الحسن بن علي توفي، والإمام بعده أخوه جعفر، وإليه أوصى الحسن، ومنه قبل الإمامة وعنه صارت إليه.
وفرقة قالت: إن الإمام بعد الحسن جعفر، وإن الإمامة صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخيه محمد ولا من قبل الحسن ولم يكن إمامًا ولا الحسن أيضًا؛ لأن محمدًا توفي في حياة أبيه، وتوفي الحسن ولا عقب له، وإنه كان مدعيًا مبطلًا، والدليل على ذلك: أن الإمام لا يموت حتى يوصي ويكون له خلف، والحسن قد توفي ولا وصي له ولا ولد، فادعاؤه الإمامة باطل، والإمام لا يكون من لا خلف له ظاهرًا معروفًا مشارًا إليه، ولا يجوز أيضًا أن تكون الإمامة في الحسن وجعفر؛ لقول أبي عبدالله وغيره من آبائه: إن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين، فدلنا ذلك على أن الإمامة لجعفر، وأنها صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخويه.
وفرقة قالت: إن الإمامة في محمد بن علي المتوفى في حياة أبيه، وزعمت أن الحسن وجعفر ادعيا ما لم يكن لهما، وأن أباهما لم يشر إليهما بشيء من الوصية والإمامة، ولا روي عنه في ذلك شيء أصلًا، ولا نص عليهما بشيء يوجب إمامتهما ولا هما في موضع ذلك، وخاصة جعفر؛ فإن فيه خصالًا مذمومة وهو بها مشهور، ولا يجوز أن يكون مثلها في إمام عدل، وأما الحسن فقد توفي ولا عقب له، فعلمنا أن محمدًا كان الإمام، وقد صحت الإشارة من أبيه إليه، والحسن قد توفي ولا عقب له، ولا يجوز أن يموت إمام بلا خلف.
وفرقة قالت: إنه ولد للحسن ولد بعده بثمانية أشهر، وإن الذين ادعوا له ولدًا في حياته كاذبون في حياته مبطلون في دعواهم؛ لأن ذلك لو كان لم يخف كما لم يخف غيره ولكنه مضى ولم يعرف له ولد، ولا يجوز أن يكابر في مثل ذلك ويدفع العيان والمعقول والمتعارف، وقد كان الحبل فيما مضى قائمًا ظاهرًا ثابتًا عند السلطان وعند سائر الناس، وامتنع من قسمة ميراثه من أجل ذلك حتى بطل بعد ذلك عند السلطان وخفي أمره، فقد ولد له ابنٌ بعد وفاته بثمانية أشهر، وقد كان أمر أن يسمى محمدًا وأوصى بذلك وهو مستور لا يُرى، واعتلوا في تجويز ذلك وتصحيحه بخبرٍ يُروى عن أبي الحسن الرضا أنه قال: ستبلون بالجنين في بطن أمه والرضيع.
وفرقة قالت: إنه لا ولد للحسن أصلًا؛ لأنا قد امتحنا ذلك وطلبناه بكل وجه فلم نجده، ولو جاز لنا أن نقول في مثل الحسن وقد توفي ولا ولد له: إن له ولدًا خفيًا لجاز مثل هذه الدعوى في كل ميت عن غير خلف، ولجاز مثل ذلك في النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقال: خلف ابنًا نبيًا رسولًا، وكذلك عبدالله بن جعفر بن محمد أنه خلف ابنًا، وأن أبا الحسن الرضا خلَّف ثلاثة بنين غير أبي جعفر، أحدهم: الإمام؛ لأن مجيء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب كمجيء الخبر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخلف ذكرًا من صلبه ولا خلف عبدالله بن جعفر ابنًا ولا كان للرضا أربعة بنين، فالولد قد بطل لا محالة.
وفرقة قالت:إن الحسن بن علي قد صحت وفاة أبيه وجده وسائر آبائه، فكما صحت وفاته بالخبر الذي لا يكذب مثله، فكذلك صح أنه لا إمام بعد الحسن، وذلك جائز في العقول والتعارف كما جاز أن تنقطع الإمامة، وقد روي عن الصادقين أن الأرض لا تخلو من حجة إلا أن يغضب الله على أهل الأرض بمعاصيهم، فيرفع عنهم الحجة إلى وقت، والله عزوجل يفعل ما يشاء، وليس في قولنا هذا بطلان الإمامة، وهذا جائز أيضًا من وجه آخر، كما جاز ألا يكون قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بينه وبين عيسى عليه السلام نبي ولا وصي، ولما روينا من الأخبار أنه كانت بين الأنبياء فترات، ورووا ثلاثمائة سنة، وروي مائتا سنة ليس فيها نبي ووصي، وقد قال الصادق: إن الفترة هي الزمان الذي لا يكون فيه رسول ولا إمام، والأرض اليوم بلا حجة إلا أن يشاء الله فيبعث القائم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفرقة قالت: إن أبا جعفر محمد بن علي الميت في حياة أبيه كان الإمام بوصية من أبيه إليه وإشارته ودلالته ونصه على اسمه وَعَيْنِه.
وفرقة قالت: لما سئلوا: هل الإمام جعفر أم غيره؟ لا ندري ما نقول في ذلك أهو من ولد الحسن أم من إخوته، فقد اشتبه علينا الأمر، إنا نقول: إن الحسن بن علي كان إمامًا وقد توفي، وإن الأرض لا تخلو من حجة ونتوقف، ولا نقدم على شيء حتى يصح لنا الأمر ويتبين.
وفرقة قالت: إن الحسن بن علي توفي وإنه كان الإمام بعد أبيه، وإن جعفر بن علي الإمام بعده كما كان موسى بن جعفر إمامًا بعد عبد الله بن جعفر؛ للخبر الذي روي أن الإمامة في الأكبر من ولد الإمام إذا مضى، وإن الخبر الذي روي عن الصادق أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين صحيح لا يجوز غيره، وإنما ذلك إذا كان للماضي خلف من صلبه فإنها لا تخرج منه إلى أخيه بل تثبت في خلفه، وإذا توفي ولا خلف له رجعت إلى أخيه ضرورة؛ لأن هذا معنى الحديث عندهم، وكذلك قالوا في الحديث الذي روي أن الإمام لا يغسله إلا إمام، وأن هذا عندهم صحيح لا يجوز غيره، وأقروا أن جعفر بن محمد غسله موسى، وادعوا أن عبدالله أمره بذلك؛ لأنه كان الإمام من بعده وإن جاز أن من يغسله موسى؛ لأنه إمام صامت في حضرة عبدالله، وهؤلاء الفطحية الخلص الذين يجيزون الإمامة في أخوين إذا لم يكن الأكبر منهما خلّف ولدًا، والإمام عندهم جعفر بن علي على هذا التأويل.
وفرقة قالت: إن الإمام بعد الحسن ابنه محمد وهو المنتظر غير أنه مات وسيحيا ويقوم بالسيف، فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا.
وفرقة قالت: ليس القول كما قال هؤلاء كلهم؛ بل لله عزوجل في الأرض حجة، وإن للحسن ابن علي ابنًا سماه محمدًا ودلَّ عليه، وليس الأمر كما زعم من ادعى أنه توفي ولا خلف له، ومحمد هذا هو القائم، وإن له غيبتين: الصغرى منهما يوم توفي أبوه العسكري، والكبرى بدأت من وفاة أبي الحسين علي بن محمد السمري آخر السفراء الأربعة، ولا يعلم انتهاءها إلا الله عزوجل ([7]).
وهذه الفرقة الأخيرة هي التي تهمنا، وهي الإمامية الاثنا عشرية، وهي المتصلة بموضوع كتابنا هذا، ويبلغ تعدادهم اليوم قريب من 200 مليون، من مجموع تعداد المسلمين والذي فاق الملياروالنصف، ويختلف البعض في صحة هذا العدد باعتبار أن العدد المذكور يشمل جميع فرق ومذاهب الشيعة السائدة في يومنا هذا كالزيدية والإسماعيلية والعلوية، فضلًا عن الفرق الباطنية في شبه القارة الهندية وغيرها.
وعلى أي حال مسألة العدد ليست مهمة فيما نحن فيه.
عمد هؤلاء إلى إثبات هذه القضية أي وجود خلف للحسن العسكري بدلائل عقلية غير مقنعة سوى لشيعتهم، وإستفادوا من ناحية النقل من وجود روايات من طرق أهل السنة في تحديد عدد الأئمة بإثنى عشر الأمر الذي أدى إلى إستقرار مسألة المهدوية إلى حين وظهور القول بالأئمة الإثنى عشر وبالشيعة الإثني عشرية الأمر الذي لم يكن قبل هذا وارد في الحسبان كما ذكرنا.
وحديث البخاري الذي رواه عن جابر بن سمُرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش. لا يخدم الشيعة لأنه لم يصبح أحداً من هؤلاء أميراً سوى علي بن أبي طالب، والحسن الذي تنازل عن الإمارة لمعاوية، وبقية الأئمة لم يتولى احداً منهم الإمارة، والحديث لمن تدبر يخدم أهل السنة أكثر من الشيعة ولكن ليس هنا مكان الكلام فيه.
إلا أن غياب الإمام يتعارض مع ما مر من عدم جواز خلو الأرض من عالم حي ظاهر يفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم.
فتفتق ذهنهم على الفكرة الشيطانية الذي مر شيء منها في الكلام عن الفرقة الأخيرة من أن للمهدي غيبة. وفي هذه الغيبة إدعى 4 رجال وهم العَمري ثم إبنه ثم الحسين بن روح ثم السَمري أنهم نوابه طمعاً في أموال المغفلين والسذج، فأرتضى هؤلاء بهؤلاء مصداقاً لقوله تعالى : فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الزخرف : 54]. فتهارش على الأمر تهارش الكلاب غيرهم. فقد ذكر الطوسي وهو من كبار علماء الشيعة عن محمد بن علي الشلمغاني : ما دخلنا مع أبي القاسم الحسين بن روح في هذا الامر إلا ونحن نعلم فيما دخلنا فيه، لقد كنا نتهارش على هذا الامر كما تتهارش الكلاب على الجيف. فإدعى الكثير من الشيعة أنهم باب لهذا المعدوم، فإمتلئت كتب القوم بذمهم كما إمتلئت جيوب من إرتضوهم بأموالهم.
استمرت الغيبة الصغرى للمهدي من سنة 260هـ إلى سنة 329هـ حيث وفاة آخر السفراء وهو السمري.
وإستطاع هؤلاء من الحفاظ على المذهب من الأنهيار بهذه الحيلة والذي أرسوا معها أيضاً قاعدة جواز ومشروعة النيابة عن المهدي في غيبته الأمر الذي ستظهر نتائجه في فترة ما أسموه بالغيبة الكبرى والتي تمتد إلى حين ظهور هذا المهدي المعدوم.
فدخل القوم في مرحلة الغيبة الكبرى وإن شئت فقل الغيبوبة الكبرى من 329هـ، وهي الفترة الذي أصطلح البعض على تسميتها بفترة "التقية والانتظار".
ولكن في الباب الآتي ستفترض جدلاً عدم وجود هذه القناعات وأن الأمر على ما هو عليه من مسألة الغيبة الكبرى، ونستمر مع مسيرة الشيعة مع مهديهم وما ترتب على ذلك مما له شأن بموضوع بحثنا.
بدايات ظهور نظرية ولاية الفقيه
كان وجود الإمام المعصوم عند الشيعة من الدوافع الرئيسة للإستغناء عن الإجتهاد وسائر ما يتعلق به من مصادر التشريع الأخرى المتعارف عليها عند أهل السنة وبقية المذاهب كالقياس وغيره، وكذلك رد أي صورة من صور النيابة عن المعصوم، بل ومحاربة هذه المسائل، ولم يتعدى دور الشيعة الأوائل وهم الإخباريين جمع الروايات ونشرها، إيماناً منهم بأن تلك النصوص مجزية في فترة الغيبة الكبرى. ولم تتجاوز صورة التشيع في بداياته هذا المفهوم.
وتتجلّى هذه الحقيقة في الشيعة الأوائل في وضع مصنفات ترد قضية الإجتهاد والقياس، وتحارب كل من أراد فتح هذا الباب.
ولعل خير مثال على ذلك الجنيد المتوفى سنة 378 للهجرة والذي ألف كتابه "تهذيب الشيعة" وأخذ فيه بالقياس والاجتهاد واستنبط الفروع على قرار علماء أهل السنة. فأثار سخط أضرابه الذين تصدوا لمنهجه بمصنفات، كما فعل المفيد في كتابه "النقض على ابن الجنيد". والمرتضى في "الانتصار" وفي "الشافي في الإمامة". ولا مجال في هذا المختصر للتطرق إلى تفاصيل كل هذا.
ولكن الزمن طال، والإمام المعصوم غائب، والمنهج الإخباري لا يستطيع مقاومة المتغيرات والمستجدات والإكتفاء بحبس ذاته في النصوص دون الرغبة في التحرر منها.
فكانت هذه الضغوط هي البوادر الأولى للإنعتاق من القيود التي تحد من مواجهة النوازل ليؤسسوا لما عرف فيما بعد بالمنهج الأصولي.
ولسنا هنا بصدد السرد التاريخي لهذه المسألة، فحسبنا المثال السابق والمتعلق ببدايات الخلاف ولننتقل إلى الحاضر القريب حيث تم طرق أبواب الإجتهاد من جديد من خلال نظرية (النيابة العامة) حيث منح الشاه طهماسب بن اسماعيل الصفوي وكالة للمحقق الكركي (علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي العاملي– ت: 940 هـ) للحكم باسم نائب المهدي، واستمرت نيابة الفقهاء العامة هذه إلى جانب الصفويين، حتى إنهارت دولتهم الأمر الذي أدى إلى ظهور المد الإخباري من جديد وعودة نظرية التقية والإنتظار وتحريم الاجتهاد والتقليد وإقامة صلاة الجمعة إلى سار ما يخص الإمام المعصوم.
وفي العصر القاجاري دافع آل كاشف الغطاء (ت 1228هـ) عن مبدأ الاجتهاد في مواجهة الإخباريين وجعله من "المناصب الشرعية" وأن المنكر لذلك "جاحد بلسانه معترف بجنانه وقوله مخالف لعمله"[8].
وجاء من بعده تلميذه المولى محمد النراقي (ت 1249هـ) وزاد على أستاذه في إضفاء طابع ولايتي على الاجتهاد يستمد مشروعيته من الله عز وجل وقال بأن "ولاية الاجتهاد.. حق ثابت من الله ومن حججه للمجتهد"، ولهذا لا بد "من وجوب الرجوع إليهم" أي للفقهاء[9].
وكذلك ذهب الشيخ مرتضى الأنصاري (1214 - 1281هـ) والذي عرف بخاتم المجتهدين في تقرير أصولي إلى "بطلان عبادة تارك طريقة التقليد والاجتهاد"[10].
وأنزل من بعده تلميذه السيد محمد كاظم اليزدي الرأي الأصولي لأستاذه منزلة الفتوى الملزمة[11]، ويعد اليزدي أول من أثبت باباً بعنوان "باب التقليد والاجتهاد" حيث وضع هذا الباب في كتابه "العروة الوثقى"، وهو الرسالة العملية الواجب على المقلد امتثال ما جاء فيها، وسار فقهاء الشيعة من بعده على منواله، وتكرست مرجعية الفقهاء ودورهم في النيابة عن المعصوم في الاجتهاد والمرجعية الدينية.
وهكذا تبدلت وظيفة الفقيه من راو إلى مجتهد إلى منصب شرعي إلى ولاية مستمدة من الله، فتحت الباب أمام ولاية الفقيه المطلقة[12].
ونقفز من جديد دون السرد التاريخي لتقترب أكثر من بوادر الظهور الحقيقي لنظرية ولاية الفقيه.
على عكس المتكلمين القدماء الإخباريين الذين كانوا يبررون الغيبة بأن الإمام موجود كالشمس وراء السحاب، شعر العلماء المتأخرون الاصوليون بحاجة الأمة إلى إمام حي ظاهر متفاعل يقود الشيعة ويطبق أحكام الدين، ولذلك قاموا بثورة كبرى في التخلي عن الشروط المثالية المستحيلة وقالوا بولاية الفقيه العادل، تلك النظرية التي أدت إلى قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وتغيير التاريخ الشيعي.
ونلخص ما مر بذكر أهم المحطات في نظرية ولاية الفقيه حتى الآن ثم نلقي مزيداً من الضوء على بعض هذه المحطات:
1. "محمد بن مكي الجزيني العاملي" (ت786هـ) صاحب أول تطوير حقيقي في الفقه الشيعي فيما يتعلق بنظرية ولاية الفقيه، فبعدما كانت علاقة رجال الدين بالمجتمع قاصرة على الفتاوى الفقهية، وعلى ما يحصلونه من نسبة الخمس، وسع الجزيني نطاق عمل الفقهاء ووسع تأثيرهم في حياة الشيعة مستندا إلى ما يسمى "نيابة الفقهاء العامة" عن "المهدي المنتظر"، وشملت هذه النيابة القضاء والحدود وإقامة صلاة الجمعة.
2. الشيخ أبو الحسن علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي العاملي، المعروف بالمحقّق الثاني (ت940هـ): نقل نظرية (النيابة العامة) إلى مرحلة سياسية متقدمة في القرن العاشر الهجري، وإعطائه الشاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي وكالة للحكم باسم (نائب الإمام: الفقيه العادل).
3. "أحمد بن محمد مهدي نراقي كاشاني" (1245هـ) والذي بين في كتابه "عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام" صلاحيات الفقهاء مستخدما مصطلح "ولاية الفقيه" لأول مرة رافضا "التقية" و"عصر الانتظار"، داعيا الفقهاء إلى تولي زمام الأمور والحكم لجماهير الشيعة، واقترح أيضا منصب الإمامة الكبرى.
4. الشيخ "مرتضى بن محمد أمين الأنصاري" الملقب بـ"خاتم المجتهدين" (ت1281هـ) حيث أفتى بوجوب تقليد الشيعة المرجع الديني أو الفقيه في كل أمورهم الحياتية والمذهبية، فتكرست مرجعية الفقهاء ودورهم كنواب للإمام الغائب الثاني عشر، وهو ما أدى لتحويل وظيفة الفقيه من مجرد ناقل للأحاديث إلى مجتهد، ثم إلى مرجع يجب تقليده، وبشكل ينزله منزلة المنصب الشرعي، أو ما يطلق عليه في الفقه الشيعي "النيابة العامة" التي صعدت إلى مصاف الولاية المستمدة من الله، وقد أسس ذلك فيما بعد لظهور نظرية "ولاية الفقيه" التي سعت لإثبات حقيقة أن العلماء والفقهاء هم ورثة الأنبياء والأئمة المعصومين استنادا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء"، ومقولة الإمام الرضا " الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك".
5. الشيخ رضا الهمداني، وسيأتي كلامه.
6. الشيخ محمد حسين النائيني (1355هـ) صاحب كتاب: تنبيه الأمة وتنزيه الملة، حيث يقول: استحالة التفاف الأمة حول الإمام المهدي المنتظر الغائب وعدم وجود الأئمة المعصومين، وحاجة الأمة إلى قيادة مشروطة بمجلس منتخب.
7. الشيخ حسن الفريد (توفي سنة 1417 هـ) شيد نظرية (ولاية الفقيه) على أساسالحسبة) واعترف في (رسالة في الخمس) بعدم استفادة نظرية الولاية من الكتاب والسنة، بل من دليل الحسبة والضرورة.
8. السيد محمد رضا الكلبايكاني (ت1993م): نظّر لولاية الفقيه بالأدلة الفلسفية التي توجب إقامة (الإمامة) في كل عصر، وعدم جواز بقاء الأمة بدون قيادة. ولم يطرح نظرية (نيابة الفقهاء العامة) وإنما طرح نظريته حول (ولاية الفقيه) بصورة مستقلة. وقال معقباً على قول النراقي الذي قال" " انا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل عاشوا وبقوا إلا بقيّم ورئيس لما لا بد منه في أمر الدين والدنيا" عقب قائلاًً : والظاهر منها أن عدة من الأمور مما لا بد منها في قوام الملة ونظم الرعية بحيث لولاها لاختل النظام، وفسدت معيشة الأنام، وتكثر الفتنة، ونزداد الحيرة وينجذم حبل الدين والدنيا، إذ ليست تلك الأمور مما يمكن صدوره من أي شخص، وفرد، بل لا بد في اجرائها من وجود الزعيم، وحكم القيم، الذي له الولاية على الرعية، والزعامة للأمة، ولهذا نرى في عيشنا، وفي كل مجتمع : إن طبقات الناس في منازعاتهم يرجعون في بدو الأمر إلى زعيمهم [13].
9. الخميني (1990م) لعب دورا هاما في تطوير الفقه السياسي الشيعي حيث حمل راية فكرة "ولاية الفقيه" من بعد الشيخ "مرتضى الأنصاري"، وكانت الظروف السياسية التي تمر بها إيران -الشاه والدور الذي لعبه الخميني في تحريك الاحتجاجات منذ عام 1963م، ثم نفيه إلى الخارج حيث استقر بالنجف فرصة كبيرة له لتطوير وصوغ أفكاره فيما يتعلق بإطاحة سلطة الشاه الدنيوية، وإقامة جمهورية إيران الإسلامية على أساس ولاية الفقيه، والتي يقابلها أن الحكومة تجسد خلافة الله على الأرض[14]. وسيأتي تفصيل قوله.
لاحظنا مما مر أن الشيخ النراقي يعد من أوائل من إستخدم مصطلح ولاية الفقيه حيث سعى إلى تعزيز دور الفقيه وبوأه مركز السلطة بطرحه لهذه النظرية بصيغة تعد خرقاً واضحاً للإجماع الشيعي في مسألة الولاية حيث أثبت للفقيه كل ما هو للنبي والإمام "إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما" بناء على أن مصدر الولاية والتشريع هو الله وحده لا شريك له وأن الشارع منح الولاية إلى الأنبياء ثم الأوصياء ثم الفقهاء[15].
وهذا نص كلامة:
في بيان وظيفة العلماء الأبرار والفقهاء الأخيار في أمور الناس، وما لهم فيه الولاية على سبيل الكلية، فنقول وبالله التوفيق :
إن كلية ما للفقيه العادل توليه وله الولاية فيه أمران :
أحدهما : كل ما كان للنبي والامام - الذين هم سلاطين الأنام وحصون الاسلام - فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضا ذلك، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما.
وثانيهما : أن كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم ولابد من الاتيان به ولا مفر منه، إما عقلا أو عادة من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به. أو شرعا من جهة ورود أمر به أو إجماع، أو نفي ضرر أو إضرار، أو عسر أو حرج، أو فساد على مسلم، أو دليل آخر. أو ورود الاذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفته لمعين واحد أو جماعة ولا لغير معين - أي واحد لا بعينه - بل علم لا بدية الاتيان به أو الاذن فيه، ولم يعلم المأمور به ولا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه، وله التصرف فيه، والآتيان به [16].
لذا يرى البعض أن هذا المعنى الذي قدمه النراقي هو المعنى الاصطلاحي للقائلين بـ"ولاية الفقيه" وإعتباره أول فقيه بحث التفصيل في مسألة ولاية الفقيه وجعل منها مسألة فقهية مستقلة"، وأن رأيه هو "أول رأي يصرح بوجوب الدور السياسي للفقهاء".
ويتضح من قول النراقي ضرورة الإمامة في عصر الغيبة، وحصر الإمامة في الفقهاء مؤكداً على رفض نظرية الغيبة والإنتظار والتقية والنص والعصمة والسلالة العلوية في الإمام.
نشط فقهاء الشيعة المعاصرون للنراقي والمتأخرون عنه في تداول هذه المسألة فبحثها الشيخ محمد حسن النجفي المعروف بصاحب الجواهر (ت 1266 هـ) وعضد إلى حد ما رأى النراقي. ولكنه قصر عنه حيث قال[17]: "لولا عموم الولاية (أي للفقهاء) لبقيت كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة". فأثبت الولاية العامة للفقهاء مستدلاً بمقبولة عمر بن حنظلة وغيرها ولكنه يعود إلى نظرية الغيبة فيقول: "نعم لم يأذنوا لهم في زمن الغيبة ببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجتهم إليها كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان وجيوش وأمراء ونحو ذلك مما يعلمون قصور اليد عن ذلك ونحوه، وإلا لظهرت دولة الحق.. "[18]
وقال رضا الهمداني (ت : 1322) مؤيداً لنظرية ولاية الفقيه التي أسماها ب :( القائمقامية للفقيه عن الإمام المهدي) : ولكن الذي يظهر بالتدبّر في التوقيع المروي عن إمام العصر - عجّل اللَّه فرجه -، الذي هو عمدة دليل النصب إنّما هو إقامة الفقيه المتمسّك برواياتهم مقامه بإرجاع عوام الشيعة إليه في كلّ ما يكون الإمام مرجعا فيه كي لا يبقى شيعته متحيّرين في أزمنة الغيبة. وهو ما رواه في الوسائل عن كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة عن محمد بن محمد بن عصام عن محمد بن يعقوب عن إسحاق بن يعقوب، قال : سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان - عجّل اللَّه فرجه - أمّا ما سألت عنه أرشدك اللَّه وثبّتك - إلى أن قال - وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللَّه، وأمّا محمد بن عثمان العمري فرضي اللَّه عنه وعن أبيه من قبل، فإنّه ثقتي وكتابه كتابي.. ومن تدبّر في هذا التوقيع الشريف يرى أنّه - عليه السّلام - قد أراد بهذا التوقيع إتمام الحجّة على شيعته في زمان غيبته بجعل الرواة حجّة عليهم على وجه لا يسع لأحد أن يتخطَّى عمّا فرضه اللَّه معتذرا بغيبة الإمام، لا مجرّد حجّية قولهم في نقل الرواية أو الفتوى [19].
وهكذا بدأت معالم النظرية برؤيتها الحالية تتضح وأصبحت الأرضية خصبة للبذر بل وقطف الثمر، فجاء الخميني وشرع في تهيئة الناس لقبول هذه النظرية مستفيداً من التنظيرات السابقة فقال: "لو قام الشخص الحائز لهاتين الخصلتين (العلم بالقانون والعدالة) بتأسيس الحكومة، تثبت له نفس الولاية التي كانت ثابتة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ويجب على جميع الناس إطاعته. فتوهم أن صلاحيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام وصلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام أكثر من صلاحيات الفقيه هو توهم خاطئ وباطل". نعم أن فضائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالطبع هي أكثر من فضائل جميع البشر، ولكن كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد في صلاحيات الحكم. فنفس الصلاحيات التي كانت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام في تعبئة الجيوش، وتعيين الولاة والمحافظين، واستلام الضرائب وصرفها في مصالح المسلمين، قد اعطاها الله تعالى للحكومة المفترضة هذه الأيام. غائة الأمر لم يعين شخصاً بالخصوص، وإنما اعطاه لعنوان العالم العادل[20].
فرسخ الخميني بهذا دعائم التيار المتحرر من شروط النص والعصمة وسائر ما تعلق به الخط المتمسك بنظرية الإنتظار والمتمثل في أن هذه المسائل إنما هي من خصائص الإمام وأن الأمور الحادثة يقف عليها الإمام بطرق مباشرة سواء بالإلهام أو الوحي كما هو مسطور في مصنفات الشيعة.
ومهد بقوله هذا بضرورة الإمامة في عصر الغيبة، وأن ما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر (ع) سيما مع هذه السنين المتمادية، ولعلها تطول - والعياذ بالله - إلى آلاف السنين، والعلم عنده تعالى وقال : · أية حاجة كالحاجة إلى تعيين من يدبر أمر الأمة ويحفظ نظام بلاد المسلمين طيلة الزمان ومدى الدهر في (عصر الغيبة)مع بقاء أحكام الإسلام التي لا يمكن بسطها إلا بيد والي المسلمين وسائس الأمة والعباد؟... وأضاف:... أما في زمان الغيبة فالولاية والحكومة، وان لم تجعل لشخص خاص، لكن يجب بحسب العقل والنقل ان تبقيا بنحوٍ آخر، لما تقدم من عدم إمكان إهمال ذلك، لأنها مما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي... والعلة متحققة في زمن الغيبة، ومطلوبية النظام وحفظ الإسلام معلومة لا ينبغي لذي مسكة (عقل) إنكارها.
ثم ترجم ذلك فعلياً على أرض الواقع عندما آل أمر ايران إليه بعد نجاح ثورته.
المعارضون
لا شك أن ردود الفعل تجاه التطبيق العملي لأي نظرية تخلتف عن الردود في مرحلة التنظير، فعندما ظهرت بوادر هذه النظرية في صورتها الأولى في القرون المتقدمة رأينا كيف تصدى لها الفريق الآخر كما مر في مثال الجنيد المتوفى سنة 378 للهجرة والذي ألف كتابه "تهذيب الشيعة" وأخذ فيه بالقياس والاجتهاد واستنبط الفروع على قرارا علماء أهل السنة. فأثار سخط أضرابه الذين تصدوا لمنهجه بمصنفات، كما فعل المفيد في كتابه "النقض على ابن الجنيد". والمرتضى في "الانتصار" وفي "الشافي في الإمامة".
وفي المحطات اللاحقة لهذه السجالات نرى أن تجربة المحقق الكركي مع الشاة طهماسب ومن جاء بعدهما من سلاطين وفقهاء والذي يرى البعض أنها أهم محطة عملية نشأت بين الفقيه والسطان، حيث طلب الشاه طهماسب من الكركي أن يشاركه في الحكم بإسم الإمام الغائب. جوبهت بنقد من التيار الإخباري التقليدي كالذي حصل بين الكركي وإبراهيم القطيفي (ت 950 هـ) والذي تمثلت في بعض وجوة الخلاف بين المدرستين كصلاة الجمعة وقال فيها الكركي بالوجوب التخييري بينما منعها القطيفي ومسألة جواز قبول الهدية من السلطان والتي أثارها القطيفي برفضه هدية أرسلها إليه الشاه طهماسب واستنكر ذلك الكركي وحصل بينهما مساجلة جعلت الفقهاء في مراحل لاحقة يعطون هذه المسألة أهمية خاصة في أبحاثهم الفقهية[21].
وكان القطيفي ينطلق في سجالاته من خلفية نافية لأي ولاية في غياب المعصوم ومحرمة لإقامة أي سلطان غير سلطان الإمام في عصر الغيبة. بينما كان المحقق الكركي يرتكز في مساجلاته وفي فتاواه إلى خلفية تقول بأن الفقيه المأمون الجامع للشرائط منصوب من الإمام المهدي، وبالتالي فهو الذي يعطي للحاكم شرعية حكمه.
ولعل هذا ما شجع طهماسب للاستعانة به ونصبه إماما دينياً فكانت إمامته تطوراً كبيراً في التفكير السياسي الشيعي على يد المحقق الكركي، أثبته وجسده قولاً وعملاً رغم أنها افتقرت إلى نظرية كلية وواضحة اللهم إلا ما كان في رسالة طهماسب وما في بعض اجتهادات الكركي الجزئية التي أجاز نيابة الفقيه فيها مع أنه توقف في النيابة في أمور أخرى كالزكاة والجهاد مثلا مما يشير إلى تردد الكركي أو إلى عدم وصوله إلى نظرية حاسمة في الحكم.
كذلك بحث الشيخ مرتضى الأنصاري نظرية أستاذه النراقي وانتقدها بشدة في كتابه "المكاسب" وقال عن الروايات المستدل بها على ولاية الفقيه على فرض صحتها: "لكن الإنصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدرها أو ذيلها يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية لا كونهم كالنبي والأئمة صلوات الله عليهم في كونهم أولى بالناس في أموالهم، فلو طلب الفقيه الزكاة والخمس من المكلف فلا دليل على وجوب الدفع إليه شرعاً".
وانتهى إلى القول "فإقامه الدليل على وجوب إطاعة الفقيه كالإمام إلا ما خرج بالدليل دون خرط القتاد". ولكنه رغم ذلك أجاز النيابة الجزئية للفقهاء أي المرجعية الدينية التي يمكن الرجوع إليها في الأمور التي لم تحمل على شخص معين.
وبعد الأنصاري توقف البحث الخاص في ولاية الفقيه كنظرية معتبرة بالمعنى الذي أطلقه النراقي إلى أن جاء الإمام الخميني وأعاد إحياءها.
لم يكن جميع فقهاء الشيعة مؤيدين لنظرية ولاية الفقيه المطلقة، فالغالبية العظمى منهم عارضوا الإمام الخميني في هذه النظرية في حياته ولحد الآن، ومنهم نائبه أيام الثورة الإسلامية، آية الله حسين علي منتظري الذي كان من المقرر أن يخلف الخميني ليكون مرشد الثورة الإسلامية في إيران بعد وفاته. وكان منتظري مؤيداً لولاية الفقيه الجزئية أي التي تعني في المسائل الدينية فقط، وليس في المسائل الدنيوية والمطلقة، إذ كان يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، مما حدا بالخميني إلى عزله في السنة الأخيرة من حكمه، وفرض عليه إقامة إجبارية في منزله، وتم تعيين السيد علي خامينئي خليفة للخميني، رغم أن خامينئي لم يكن قد بلغ درجة الاجتهاد (آية الله) عند وفاة الخميني عام 1989.
وآية الله شريعتمداري إلى حد أن اتهمه الخميني بالردة عن الإسلام!!
وقال عنه موسى الموسوي: عندما أصر الإمام الشريعتمداري على موقفه المعارض أرسل الخميني عشرة الآف شخص من جلاوزته يحملون العصي والهراوات إلى دار الإمام يردون قتله وقتل أتباعه وهم ينادون بصوت واحد ويشيرون إلى دار الإمام (وكر التجسس هذا لابد من حرقه) ودافع حرس الإمام لشريعتمداري دفاع الأبطال عن دار الإمام واستشهد رجلين من أتباعه في ذلك الهجوم البربري الذي شنه إمام قائم على إمام قاعد. وهكذا أعطى الإمام الخميني درساً بليغاً للائمة الآخرين الذين أردوا الوقوف ضد ولايته ليعملوا أن مصير الإمام الشريعتمداري سيكون مصيرهم إذا ما أردوا الوقوف ضد رغبته[22].
وكذلك حسن الطباطبائي القمي في خرسان الذي لم يكن نصيبه من المحن والبلاء اقل من نظيره الإمام الشريعتمداري في قم عندما عارض ولاية الفقية معارضة الأبطال. لقد تقبل الإمام القمي ما لاقاه من الاضطهاد من زميله القديم في السجن والجهاد الإمام الخميني صابراً محتسباً في سبيله[23].
وآية الله العظمى مرعشي النجفي وغيرهم.
ومن الذين عارضوا نظرية ولاية الفقيه الخمينية جميع فقهاء الشيعة في النجف الأشرف، ومنهم من توفاهم الله مثل: محسن الحكيم ونجله محمد باقر الحكيم الذي اغتيل عام 2003 بعد عودته من منفاه في إيران، وأبو القاسم الخوئي، والشيرازي ومحمد صادق الصدر. والأحياء منهم مثل: علي السيستاني، ومحمد سعيد الحكيم، وإسحاق فياض، وبشير النجفي. وفي لبنان محمد حسين فضل الله، فقد أيد الخميني في البداية في ولاية الفقيه، ولكنه تراجع فيما بعد وقال "بتعدد ولايات الأمر" أو "تعدّد القيادة الإسلامية في عصر الغيبة"، ولذلك حورب من قبل حزب الله في لبنان الذي يؤمن بولاية الفقيه.
ومحمد جواد مغنية حيث استنكر على الخميني ولاية الفقيه وقال : قول المعصوم وأمره تماماً كالتنزيل من الله العزيز العليم) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم 3]. ومعنى هذا أن للمعصوم حق الطاعة والولاية على الراشد والقاصر والعالم والجاهل، وأن السلطة الروحية والزمنية - مع وجوده - تنحصر به وحده لا شريك له، وإلا كانت الولاية عليه وليست له، علماً بأنه لا أحد فوق المعصوم عن الخطأ والخطيئة إلا من له الخلق والأمر جل وعز.. أبعد هذا يقال: إذا غاب المعصوم انتقلت ولايته بالكامل إلى الفقيه؟ " [24].
والمفارقة أن حفيد الإمام الخميني، السيد حسين الخميني، وهو رجل دين بدرجة آية الله، من أشد المعارضين في إيران لنظرية ولاية الفقيه وزج الدين بالسياسة، وله قول مشهور في هذا الخصوص: "السياسة تفسد الدين والدين يفسد السياسة". كما وإن محمد خاتمي، رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران سابقاً معارض لولاية الفقيه، ويسعى لقيام نظام ديمقراطي يحترم الدين. أما بالنسبة لموقف الشعب الإيراني من نظرية ولاية الفقيه فهو رافض لها كما ظهر ذلك بوضوح من خلال نسبة المقاطعين للانتخابات البرلمانية في الدورة الأخيرة (2008) التي بلغت نحو 80% من الذين يحق لهم التصويت، وكتعبير لمعارضتهم للنظام الإسلامي الثيوقراطي. كذلك انتفاضة الشعب الإيراني بعد الإنتخابات الرئاسية عام 2009 والتي فاز بها المرشح الديمقراطي المعارض مير حسين موسوي، فتم تزييف النتائج لصالح محمود أحمدي نجاد، وبمباركة من مرشد الثورة الإسلامية (الولي الفقيه) السيد علي خامنئي[25].
النقد الروائي
تمسك القائلون بنظرية ولاية الفقيه بمجموعة روايات نذكر منها:
1ـ عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك ؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا، وإن كان حقا ثابتا له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ". قلت : فكيف يصنعان ؟ قال : ينظران [ إلى ] من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله. قلت : فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر، قال : قلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم. قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة، قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ ؟ قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد. فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا. قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت : فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا ؟ قال : إذا كان ذلك فارجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات [26].
2 عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه[27].
3 ـ عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام : أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك - إلى أن قال : - وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله[28].
4 ـ عن علي عليه السلام، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم ارحم خلفائي، ثلاثا. قيل : يا رسول الله، ومن خلفاؤك ؟ قال : الذين يبلغون حديثي وسنتي، ثم يعلمونها أمتي[29].
5 ـ عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر [30].
6 ـ عن علي بن أبي حمزة قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول : إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شئ لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها [31].
7 ـ عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا قيل يا رسول الله : وما دخولهم في الدنيا ؟ قال : اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم [32].
8 ـ عن أمير المؤمنين عليه السلام : " اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه، من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول : * ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الاثم ) إلى أن قال : وأنتم أعظم الناس مصيبة، لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون ذلك، بان مجاري الأمور والاحكام على أيدي العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه[33].
9 ـ عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : " العلماء حكام على الناس " [34].
10 ـ عن النبي صلى الله عليه وآله " أنه قال : السلطان ولي من لا ولي له " [35].
11 ـ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي فأقول علماء أمتي كسائر الأنبياء قبلي[36].
12 ـ عن الامام الرضا عليه السلام قال : منزلة الفقيه في هذا الوقت، كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل[37].
13 ـ عن أبي عبد الله عليه السلام قال : العلماء امناء، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة. وفي رواية أخرى : العلماء منار، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة [38].
14 ـ عن محمد بن إسماعيل قال : مات رجل من أصحابنا ولم يوص فرفع أمره إلى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله وكان الرجل خلف ورثة صغارا ومتاعا وجواري فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن إذ لم يكن الميت صير إليه الوصية وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنهن فروج قال : فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه السلام وقلت له : يموت الرجل من أصحابنا ولا يوصي إلى أحد ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منا ليبيعهن أو قال : يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج فما ترى في ذلك ؟ قال : فقال : إذا كان القيم به مثلك ومثل عبد الحميد فلا بأس[39].
15 ـ عن إسماعيل بن سعد الأشعري قال : سألت الرضا عليه السلام عن رجل مات بغير وصية وترك أولادا ذكرانا [ وإناثا ] وغلمانا صغارا وترك جواري ومماليك هل يستقيم أن تباع الجواري ؟ قال : نعم. وعن الرجل يصحب الرجل في سفره فيحدث به حدث الموت ولا يدرك الوصية كيف يصنع بمتاعه وله أولاد صغار وكبار أيجوز أن يدفع متاعه ودوابه إلى ولده الكبار أو إلى القاضي ؟ فإن كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع ؟ وإن كان دفع المال إلى ولده الأكابر ولم يعلم به فذهب ولم يقدر على رده كيف يصنع ؟ قال : إذا أدرك الصغار وطلبوا فلم يجد بدا من إخراجه إلا أن يكون بأمر السلطان. وعن الرجل يموت بغير وصية وله ورثة صغار وكبار أيحل شراء خدمه ومتاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك فإن تولاه قاض قد تراضوا به ولم يستأمره الخليفة أيطيب الشراء من أم لا ؟ فقال : إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس به إذا رضي الورثة بالبيع وقام عدل في ذلك[40].
16 ـ عن زرعة، عن سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية وله خدم ومماليك وعقد كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث ؟ قال : إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس [41].
17 ـ قيل لأمير المؤمنين عليه السلام : من خير خلق الله بعد أئمة الهدى، ومصابيح الدجى ؟ قال : العلماء إذا صلحوا [42].
18 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم[43].
19 ـ مقاتل بن سليمان : وجدت في الإنجيل أن الله تعالى قال لعيسى عليه السلام : عظم العلماء وأعرف فضلهم فإني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين والمرسلين كفضل الشمس على الكواكب، وكفضل الآخرة على الدنيا، وكفضلي على كل شئ[44].
20 ـ عن الرضا عليه السلام : روي أن لأيسر القبيلة وهو فقيهها وعالمها أن يتصرف لليتيم في ماله فيما يراه حظا وصلاحا، وليس عليه خسران ولا له ربح، والربح والخسران لليتيم وعليه، وبالله التوفيق [45].
فهذه جل الروايات التي يحتج بها من ذهب إلى القول بنظرية ولاية الفقيه، وهي كما يتبين من النظرة الأولى لمن له إلمام بهذه المسائل لا تخلو من مآخذ كبعد البعض عن المقصود إن صحت، وكون بعضها لم ترد من طرق الشيعة فتكون ساقطة عن الإعتبار عند الفريق الآخر وضعف أسانيد البعض الآخر والمنقولة من كتب فيها كلام عند الشيعة أنفسهم الأمر الذي لا يسعنا الكلام فيه في هذا المختصر.
أما المتون فبعضها تتكلم عن حالة خاصة فى رجلين تنازعا فى ميراث. لذلك رفض الفقهاء تعميمها وتطبيقها على الولاية المنظورة بقياس غير مقبول مع الفارق الكبير بينهما. كما أنها ترجع إلى (قد روى حديثنا) وليس الفقهاء المجتهدين أى النظرية الإخبارية التى كانت سائدة فى الفكر الشيعى سابقا بعد عصر الغيبة لفترات طويلة وهى تحرم الاجتهاد بروايات اللعن من الأئمة على من يجتهد ويستعمل عقله فى القياس وغيره، وكذلك تحرم التقليد لأحاديث أهل البيت (من قلَّدَ فى دينه هلك) قبل التأثر بالمذاهب السنية ومدارس الاجتهاد[46].
ثم أن أكثر هذه الروايات وردت في بيان فضيلة العلم كما يرى المعارضين ويروون أن الذي يرثه الوارث ليس هو جميع شؤون الموروث. بل لا يرث إلا ما كان يصلح للوراثة والمناسب ههنا بمناسبة المقام هو تبليغ الأحكام وبيان الشرعية. وهذه الروايات مذيلة غالباً بأن الأنبياء لا يورّثون مالا المفهوم منه أن ذلك ليس من شأنهم وإنما لا اهتمام لهم بالمال والدنيا لا أنهم لا يورّثون مطلقاً لمخالفة ذلك لنص الكتاب والسنة فإذن هي بصدد بيان وراثة العلم الذي هو من شأن الأنبياء وما هو من شأن العلماء من وراثة العلم وسيرة الأنبياء في مقابل الطواغيت والظلمة.
وأن الاستدلال براوية مجاري الأمور وغيرها إنما يراد منه الأئمة المعصومين كما يعتقد الشيعة فهي لو كانت لها ظهور فإنما هو في الولاية التكوينية لو قيل بها بالنسبة للمعصومين، كما وأن العلماء بالله لا ينطبق إلا على أهل البيت برأي الشيعة لأن سائر الناس لا يقال في حقهم انهم من العالمين بالله بل غاية ما يمكن أن يقال في حقهم أنهم عارفون بالله. وقالوا - أي الفريق المعارض للنظرية - إن ما استدلّ به على الولاية المطلقة لا إشعار فيه على ذلك وأن ولاية النبي وآله ولاية تابعة لذواتهم وليست قابلة للجعل لغيرهم وعلى فرض إمكان مجعوليتها فهي محتاجة إلى أدلة قطعية واضحة تثبت هذا التنزيل أو التفويض للفقيه بنحو الولاية المطلقة بما تسوّق التصرّف في الأنفس والأعراض والأموال، وأين الفقيه من مثل (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)، أو كون النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فكيف يمكن تصور هذه المنزلة العظمى للفقهاء في زمن الغيبة؟.
كما وأن مجاري الأمور بيد العلماء لا دليل فيه على أكثر مما تحتاج إليه الناس لنظم أمورهم وهذا ما تتكفّله الولاية الوسطى التي عليها معظم الاعلام. ثم يشير الاعلام إلى أن هذه الروايات ليست في مقام جعل الولاية فتكون مهملة من هذه الجهة. ويضيفون إلى ذلك أن كلمة العلماء إنما تطلق على أهل البيت خاصة في ذلك الزمان فسياقها ينصرف إليهم وهناك مما يؤيد ذلك أيضاً من الروايات الشيعة كما ورد نحن العلماء وشيعتنا المتعلّمون.
فكيف مع ذلك يمكن حمل إطلاق لفظ العلماء على الفقهاء في زمن الغيبة مع عدم وجود قرينة على ذلك بل مع وجود القرينة على الخلاف وهي الروايات الدالة على أن العلماء هم المعصومون وأنه لا أقل من تحقق الاحتمال فلا يمكن الجزم بكون المراد من العلماء هم الفقهاء.
وكذا حديث (رحم الله خلفائي) فالظاهر منه كونه في مقام تبليغ الأحكام وتعليم الناس للكتاب والسنة وليس في صدد جعل المنصب والولاية للفقيه فضلاً عن كون هذه الولاية بنحو الولاية المطلقة[47].
فهذه حال الروايات التي يستند عليها من دعى لهذه النظرية وعلى رأسهم الإمام الخميني الذي لم يكن حظه في الإجتهاد سوى رسالته العمليه وهي أقرب إلى النسخ واللصق من وسيلة النجاة للإصفهاني، وهذه الرسالة أجيزت لإنقاذه من حبل المشنقة عندما كان مسجوناً بإعتبار أن قانونا في الدستور الإيراني يمنع إعدام الفقيه. أما سائر كتيه ففيها من المسائل التي أستوجبت تكفيره من علماء المسلمين حتى من بني جلدته وبالأخص تلك المتعلقة بآراءة المؤيدة لإبن عربي وكفرياته.
وخلاصة ما مر كما يقول الكاتب أن مسيرة الفكر السياسي الشيعي خلال ألف عام، منذ وفاة الإمام الحسن العسكري، والقول بوجود ولد له في السر هو :( الإمام المهدي) الغائب المنتظر، مر في مراحل. ففي القرون الأولى قالوا بنظرية :(التقية والانتظار) كلازمة من لوازم نظرية (الإمامة والغيبة) التي كانت تحرم إقامة الدولة أو الثورة أو ممارسة أي نشاط سياسي إلا بقيادة (الإمام المعصوم المعين من قبل الله تعالى) وهو ما أدى إلى انسحاب الشيعة من المسرح السياسي والانعزال التام.
ثم تراجع الفكر الامامي عن هذه النظرية تدريجيا وقال بنظرية :(النيابة العامة) التي طورها الفقهاء بعد ذلك بقرون إلى نظرية ( ولاية الفقيه)، والتي تخلَّوا فيها عمليا عن النظرية (الامامية ) حيث أجازوا إقامة الدولة بدون اشتراط العصمة أو النص أو السلالة العلوية الحسينية في (الإمام المعاصر) وهو ما أدى إلى نهضة الشيعة في العصر الحديث، وقيامهم بتأسيس (الجمهورية الإسلامية ) في إيران.
وقد رفض أصحاب نظرية (النيابة العامة وولاية الفقيه) النصوص المثبطة التي جاء بها أصحاب نظرية (الانتظار) والتي كانت تحرم الثورة والخروج مع أي ثائر حتى لو كان من أهل البيت سوى ( الإمام المهدي المنتظر). واستعانوا بالعقل في عملية التنظير لوجوب إقامة الدولة في (عصر الغيبة ) واستخدموا نفس أدلة وجوب الإمامة، الفلسفية، التي استخدمها الأولون، في إثبات عدم جواز انتظار (الإمام المهدي الغائب) الذي قد تطول غيبته آلاف السنين، كما قال الإمام الخميني. وذلك خلافا للشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والعلامة الحلي وغيرهم من المتكلمين الذين كانوا يشترطون العصمة في الإمام، ويقولون: · ان طريق معرفة الإمام هو النصب والنص من الله، وان لا طريق للتعرف على الإمام إلا بقول النبي أو الإمام السابق أو المعاجز. ويرفضون : قيام الأمة بنصب الإمام واختياره عبر الشورى، ويقولون: ليس يقوم عندنا مقام الإمام إلا الإمام.
تهافت النظرية
لم يقف أصحاب الرأي الآخر من الشيعة أمام هذه النظرية الطارئة في الفكر الشيعي مكتوفي اليدين ودون نقد، وحيث أن أهل مكة ادرى بشعابها فلندع الهدم يأتي من الداخل الشيعي. فقد رأى الفريق الآخر أن النصوص المتعلقة بالحكم تكاد تكون مفقودة؛ فأغلب الأخبار المعتمدة هي تلك التي تتعلق بالقضاء، وبعضها جاء في الأُمور العامة كالحث بالرجوع إلى العلماء، وحيث أن آيتي الشورى ليستا كافيتين بأن تغطيا مشكلة الحكم، وأن ظاهرهما يتعلق بالمؤمنين عموماً وليس العلماء منهم فقط؛ لذا عمدت الإطروحة الجديدة (شورى الفقهاء) إلى المزاوجة بين ما يُفاد من الآيتين في الحث على الشورى وبين ما تنص عليه الأخبار في الرجوع إلى الفقيه وقبول حكمه كما في القضاء، فكانت الحصيلة من عملية الجمع هذه هي التبشير بفكرة الشورى لكل من الأُمة والفقهاء. فشورى الأُمة تتمثل بإنتخابهم لشورى الفقهاء بما لهم من منصب من قبل الإمام، فيكون الحكم للأُمة والفقهاء، حيث لا يتم تنصيب الفقهاء إلا برضا الأُمة.
وسيأتي الكلام بتوسع في مسألة شورى المراجع.
وتقتضي أدلة التقليد لزوم إتباع الخبير، وتقتضي أدلة الحكومة إتباع حكم الحاكم لا مطلق الخبير في شؤون الحكم، أما أدلة الشورى فهي ناطقة بوجوب الإستشارة على الحاكم وإتباعه للأكثرية، وبالتالي تكون الحكومة لكل الفقهاء لا لأحدهم، أو لأحدهم مشروطاً بإمضاء الأكثرية.
ويرى هذا الفريق أن إطلاق معنى الحاكم ليشمل كل أمر ونهي بحيث يكون كلامه هو القانون، والقانون هو كلامه وامضاءه، ليس على إطلاقه، ولابد من تقييده بأمور كالتقييد بتطبيق الاحكام الشرعية العامة بحيث إذا لم يحكم بالحكم الشرعي يجب الرد عليه ورفضه. والتقييد بالمرتبة السفلى عن مرتبة المعصومين الذين لهم تمام الولاية على الاموال والأنفس، فلا تكون للفقيه تلك الصلاحية. والتقييد بالمصلحة، فلابد أن يكون حكمه مطابقاً للمصلحة ولا ينفذ من دونها، وهذا لابد من معرفة واقعه لأن الفقيه متمسك بالمصلحة نظرياً وفي حدود دليله.
ومن هذا كله صحت تسمية الفقيه بالحاكم الشرعي وليس بالولي الشرعي أو الولي العام الاّ مجازاً، لأن صفات الحاكم تختلف عن صفات الولي كما هو واضح جلي.
لذا يرى ويدعو التيار المعارض لنظرية الولي الفقيه إلى تبني شورى الفقهاء أو المراجع مستدلين بقوله تعالى : (أمرهم شورى بينهم) وقوله تعالى في آية أخرى (وشاورهم في الأمر). وأن الأصل أن الله عزوجل لم يعين أحد المراجع للحكم، الأمر الذي يقتضي إباحة اختيار أي منهم. ولخصوا رؤيتهم هذه على أن الحكومة الإسلامية قوامها شورى المراجع الذين هم مراجع تقليد الناس فهم نواب الأئمة، ولا وجه لأن يكون بعض المراجع في الحكم دون بعض. وأن ولاية الفقهاء العامة محصورة بالأمور الحسبية والتنظيمية. وأن الرجوع إلى الفقيه ليس أمراً مبهماً لا يمكن التعرف على ملاكه، وإن الرجوع إلى المختصين في الأمور السياسية إنما يهدف إلى تحسين الأداء السياسي. وأن الفقيه؛ بسبب تخصصه في علم الفقه، لا يُعّد هو القدر المتيقّن من المخوّلين في التصدي لمثل هذه الأمور، فلا بد من التمييز بين التخصّص في الفتوى والتخصّص في الإدارة والتنفيذ، فقد يكون الفقيه أعلم في الإفتاء، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن يكون مختصّاً في الإدارة والتطبيق.
وهكذا نرى أن نظرية (ولاية الفقيه) التي تحصر الحق في ممارسة السلطة في (الفقهاء) كانت محل نقاش كبير بين العلماء، لأن تلك الروايات الخاصة والعامة التي اعتمدت عليها كانت هي الأخرى، ولا تزال، محل نقاش كبير في سندها ودلالتها، مما يضعف الاستدلال على حصر حق الحكم في الفقهاء، إذ أن مناط الفقه غير مناط الحكم والقدرة على إدارة البلاد.
نعم قد يستحسن أن يكون الحاكم فقيها، ولكن لا علاقة للفقه بالحكومة، إذ قد يستعين الحاكم بالفقهاء ويكوّن منهم مجلسا للشورى، وربما يقال: إن الحاكم يجب أن يكون فقيها بما يحتاج إليه من أمور الإدارة والسياسة والاقتصاد، ولا يجب أن يكون فقيها بمسائل الحلال والحرام الأخرى. وهناك أمور تتعلق بالقوة والأمانة، كالإشراف على أموال اليتامى والمجانين ولا علاقة لها بالفقه والاجتهاد.
وقد رفض بعض العلماء نظرية ولاية الفقيه كالشيخ مرتضى الأنصاري الذي ناقش في (المكاسب) أدلة القائلين بالولاية العامة، حيث استعرض الروايات العامة التي يتشبثون بها، وأنكر دلالتها على الموضوع ولاية الفقيه وحدد دلالتها في موضوع الفتيا والقضاء فقط.
وكذلك فعل الخوئي الذي قال : إن ما استدل به على الولاية المطلقة في (عصر الغيبة) غير قابل للاعتماد عليه، ومن هنا قلنا بعدم ثبوت الولاية له إلا في موردين هما الفتوى والقضاء.
ومما أستدل به المعارضين على نقد هذه النظرية هو تناقضها مع نظرية الإمامة الإلهية وأن فهم معنى الولاية المطلقة للفقهاء، من تلك الروايات الخاصة والعامة يتناقض مع نظرية (الإمامة الإلهية) التي تحصر الحق في الحكم في (الأئمة المعصومين المعينيين من قبل الله)، ولذلك لم يفهم أحد من العلماء الشيعة الإمامية السابقين الذين رووا تلك الروايات معنى الولاية منها، وآثروا الالتزام بنظرية الانتظار على استنباط معنى الولاية العامة منها. وأن الفقه بمعنى الاجتهاد، مفهوم حادث متأخر في الفكر الشيعي الإمامي الذي كان يحرم الاجتهاد في القرون الأربعة الأولى، ويعتبره من ملامح المذاهب السنية، وهو ما يقول به الاخباريون (الاماميون الأوائل) حتى اليوم. وأن إعطاء الفقيه العادل، وهو بشر غير معصوم ومعرض للخطأ والانحراف، صلاحيات الرسول صلى الله عليه وسلم المطلقة وولايته العامة على النفوس والأموال، والتطرف في ذلك إلى حد السماح للفقيه بتجميد القوانين الإسلامية الجزئية (الشريعة) كما يقول الإمام الخميني والآذري القمي وبعض أنصار ولاية الفقيه في إيران يعتبر محاولة لإلغاء الفوارق الضرورية بين النبي المعصوم المرتبط بالسماء وبين الفقيه الإنسان العادي المعرض للجهل والهوى والانحراف، وهذا ما يتناقض تماما مع الفكر الأمامي القديم الذي رفض مساواة أولي الأمر (الحكام العاديين) في وجوب الطاعة لهم كوجوب الطاعة لله والرسول، وذلك خوفا من أمرهم بمعصية والوقوع في التناقض بين طاعتهم وطاعة الله.. ومن هنا ابتدع الفكر الأمامي واشترط العصمة كشرط في (الإمام) - مطلق الإمام - ثم قال بوجوب النص، وانحصار النص في أهل البيت وفي سلالة علي والحسين إلى يوم القيامة.
وقالوا : إذا أعطينا الفقيه الصلاحيات المطلقة والواسعة التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأوجبنا على الناس طاعته، وهو غير معصوم، فماذا يبقى من الفرق بينه وبين الرسول؟.. ولماذا إذن أوجبنا العصمة والنص في الإمامة وخالفنا بقية المسلمين وشجبنا اختيار الصحابة لأبي بكر مع انه كان افقه من الفقهاء المعاصرين؟
وأضافوا مادام الفقيه إنسانا غير معصوم فانه معرض كغيره للهوى وحب الرئاسة والحسد والتجاوز والطغيان، بل انه معرض أكثر من غيره للتحول إلى اخطر دكتاتور يجمع بيديه القوة والمال والدين، وهو ما يدعونا إلى تحديد وتفكيك وتوزيع صلاحياته أكثر من غيره، لا أن نجعله كالرسول أو الأئمة المعصومين، فانه عندئذ سيتحول إلى ظل الله في الأرض، ويمارس هيمنة مطلقة على الأمة كما كان يفعل الباباوات في القرون الوسطى. ودللوا على هذا بما حدث في إيران عندما قال الخميني في رسالته إلى الخامنئي: إن الحكومة تستطيع أن تلغي من طرف واحد الاتفاقيات الشرعية التي تعقدها مع الشعب إذا رأت أنها مخالفة لمصالح البلد أو الإسلام، وتستطيع أن تقف أمام أي أمر عبادي أو غير عبادي إذا كان مضرا بمصالح الإسلام، ما دام كذلك. إن الحكومة تستطيع أن تمنع وفي ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك أن تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية، وان باستطاعة الحاكم أن يعطل المساجد عند الضرورة، وان يخرب المسجد الذي يصبح كمسجد ضرار ولا يستطيع أن يعالجه بدون التخريب!.
وقد يجوز كل ذلك فعلا عند المصلحة والضرورة.. ولكن المشكلة هي من يحدد المصلحة والضرورة؟ إذ إن كل حاكم يرى أن المصلحة تقف إلى جانبه وان الصواب هو ما يراه، فإذا أعطيناه القدرة على تخريب المساجد فانه قد يخرب ويهدم المساجد المعارضة له ويعتبرها كمسجد ضرار، وتبلغ المشكلة قمة الخطورة عندما نعطي للحاكم القدرة على إلغاء أية اتفاقية شرعية يعقدها مع الأمة بحجة انه رأى بعد ذلك أنها مخالفة لمصلحة البلد أو الإسلام، دون أن نعطي الأمة الحق في تحديد تلك المصلحة أو ذلك التناقض مع الإسلام.
وبالرغم من إن الخميني كان قد التزم مع الشعب الإيراني بالدستور الذي أعده مجلس الخبراء في بداية تأسيس الجمهورية الإسلامية، وحدد فيه صلاحيات الإمام، إلا انه ألغى الدستور عمليا وتجاوز صلاحياته ليتدخل في أعمال مجلس الشورى ومجلس المحافظة على الدستور ورئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء، وذلك انطلاقا من إيمانه بقدرة الفقيه الحاكم على إلغاء أية اتفاقية شرعية يعقدها مع الشعب، إذا رأى بعد ذلك أنها تتناقض مع مصلحة الأمة أو الإسلام، وهو ما عبر عنه للخامنئي عند احتجاجه على بعض تلك التجاوزات.
والخميني الذي يؤمن بنظرية الجعل والنصب للفقهاء من قبل الإمام المهدي، يقع في مشكلة عويصة هي مشكلة التزاحم بين الفقهاء والصراع فيما بينهم على ممارسة السلطة والولاية، ويحاول حلها في كتاب (البيع) بصورة أو بأخرى. ولكنه لا يخرج منها بحل مرضٍ خصوصا وانه لا يرى أي دور للأمة في تفضيل واحد من الفقهاء على الآخر، أو حصر الحق بالولاية لمن تنتخبه الأمة، كما يرى الشيخ المنتظري في كتاب (دروس في ولاية الفقيه).
كل هذا جعل الفريق المعارض يقول: إن الجزء الأول من نظرية (ولاية الفقيه) السياسية معقول ولكن الجزء الآخر (النيابة العامة) الذي بني على أحاديث (نقلية) ضعيفة، يبدو غير منطقي ولا معقول، خاصة وانه يتسبب في إعطاء الولاية المطلقة العامة للفقهاء، وتجريد الأمة منها.
وفصل هؤلاء البديل لنظرية ولاية الفقيه وهي نظرية شورى الفقهاء التي ذكرنا بعض ملامحها بالقول بأن الأمة تختار مجموعة من الفقهاء (ليكونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فيما بينهم) وإذا تحقق أن انتخبت الأمة مجموعة من الفقهاء تأتي مسألة جديدة، إذ يتخذ الوضع أحد حالتين:
أ- أن يقرر الفقهاء المنتخبون ترئيس أحدهم، ويمارس الباقون مهمة الاستشارة، فهم (مشاورون).
ب- أن تنفذ أمور الدولة والحكم بـ (الرهينة الجماعية).
وعليه يكون للدولة الإسلامية رئيسها الأعلى هو الفقيه الجامع للشرائط، سواء كان بصورة فردية أو بصورة جماعية- حسب اختيار الأمة أحد الأمرين.
ويرون أن أن الأمة إذا اختارت اكثر من فقيه جامع لشرائط الحكم وتشكلت من ذلك هيئة حاكمة، إنما نكون قد افرزت (شورى المراجع) كصورة للحكم الإسلامي على ارض الواقع، ولكن تفطنوا إلى نتيجة خطيرة مؤداها، أن أن (شورى المراجع) كطريقة في الحكم متوقفة على إمضاء الأمة لها. وبهذا يجسد الشيرازي على الرغم من أنه يرى في (شورى المراجع) أنها امثل الصور وأدقها وأروعها واجدرها في إدارة شؤون الدولة، إلا أنها يجب أن لا تفرض على الناس بقوة أو إيهام أو بأي لون من ألوان الفرض، بل يجب أن تكون نتيجة انتخاب شعبي شامل حيث تعمل عملية الانتخاب هنا دورها الإيجابي الفاعل وتعود إلى القاعدة الأساسية الأولى التي أرساها الشيرازي، إلا وهي على ضرورة تعيين الحاكم- فردا أو جماعة- بالانتخاب.
فخلاصة نظرية الشيرازي تتلخص بالتسلسل الآتي:
أولا: لا بد من حاكم إسلامي.
ثانيا: هذا الحاكم إما فرد واحد (ولاية الفقيه)، أو جماعة من الفقهاء الجامعين للشرائط (شورى المراجع).
ثالثا: في حالة الشورى، إما أن تجتمع العناصر على ترئيس أحدها، أو تتفق أن يكون الحكم استشاريا بينها.
رابعا: ولاية الفقيه أو شورى المراجع إنما تتقرر بالانتخاب المباشر أو بواسطة نواب منتخبين لهذا الغرض.
والشيرازي يؤمن بـ (شورى المراجع) كنظرية خاصة، ولكن يقيد أو يشترط إمضاءها على ارض الواقع برضا الأمة، لأن الانتخاب عنده أصل لا يمكن خرقه أو تنحيته.
وقال معارضون آخرون لو كانت لنظرية (النيابة العامة) أو (ولاية الفقيه) أي رصيد من الواقع لتحدث عنها (الإمام المهدي) أو النواب ,ومن هنا فلم يعرف الشيخ الصدوق نظرية النيابة العامة ,ولم يشر إليها أبدا. كذلك لم تتحدث الرسائل الثلاث التي يقال إن (الإمام المهدي) قد أرسلها إلى الشيخ المفيد عن النيابة العامة للفقهاء وخلت من أي إشارة إلى تفويضه أو تفويض الفقهاء بأي منصب قيادي في (عصر الغيبة الكبرى). وبالرغم من ذلك فقد تحدث الشيخ المفيد في (المقنعة) عن تفويض الأئمة للفقهاء إقامة الحدود في عصر الغيبة فقط.
وقد تحدث الشيخ الطوسي والسيد المرتضى عن فرضية تفويض الأئمة العام للفقهاء في مجال الحدود والقضاء.
وبقية تطور النظرية مر ذكره.
وكانت المشكلة الرئيسة التي حالت دون قول بعض الفقهاء (كالشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر) بنظرية (الولاية العامة) هي فلسفتهم عن سر (غيبة الإمام المهدي) واعتقادهم بعدم توفر الظروف الموضوعية للخروج، ومن ثم اعتقادهم بعدم إمكانية إقامة الدولة في (عصر الغيبة) فضلا عن جوازها، وذلك لوجود الخوف والإرهاب الذي يمنع الإمام من الظهور، كما يقول النجفي (صاحب الجواهر)، الذي قال بنظرية (النيابة العامة) بشكل محدود، ولكنه لم يقل بنظرية (ولاية الفقيه العامة) بسبب إيمانه بعدم إمكانية تحقق ذلك · وإلا لظهرت دولة الحق.
وذلك إضافة إلى عدم قيام الأدلة العقلية لديهم بمقاومة أدلة نظرية (الإمامة الإلهية) ووليدتها نظرية (الانتظار).
وربما كان هذا هو السبب في إحجام عدد من العلماء الذين قالوا بنظرية: (ولاية الفقيه العامة) كضرورة لا بد منها في (عصر الغيبة) ولو من باب الحسبة، عن مد النظرية إلى بعض أبواب الفقه كالجهاد وصلاة الجمعة والحدود، التي اشترطوا فيها إذن الإمام المعصوم (المهدي المنتظر).
بينما كانت نظرية (ولاية الفقيه) تقوم على أساس منطق كلامي جديد يحتم قيام الدولة في عصر الغيبة كضرورة اجتماعية لا مفر منها، ولا يلتزم بشرط توفر (العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية) في (الإمام المعاصر) ويكتفي بتوفر شرط (العلم والعدالة والتصدي والكفاءة الإدارية).
وفي الحقيقة.. لم يدع أحد من أنصار ولاية الفقيه قوة سند تلك الروايات، وإنما حاولوا تعضيدها بالعقل وعدم إمكانية بقاء الحكومة بلا والٍ، وقالوا ان الفقيه هو القدر المتيقن المسموح به على قاعدة اختصاص الولاية بالله والرسول والأئمة الاثني عشر.
وقد قام النراقي في الاستدلال على ضرورة إقامة الدولة في عصر الغيبة بالأدلة العقلية ثم حصر الجواز في الفقهاء فقط، بناء على تلك الأخبار الضعيفة.
ونتيجة لضعف الأدلة النقلية وعجزها عن إثبات الولاية للفقيه بالنيابة العامة عن الإمام المهدي، فقد حاول الشيخ حسن الفريد (توفي سنة 1417 ه) ان يشيد نظرية (ولاية الفقيه) على أساس: (الحسبة) واعترف في (رسالة في الخمس) بعدم استفادة نظرية الولاية من الكتاب والسنة، بل من دليل الحسبة والضرورة.
واعتبر السيد البروجردي مقبولة عمر بن حنظلة · شاهدا على نظرية (النيابة العامة) بعد أن استدل عليها بالمنطق القياسي وقال:· إن الأئمة (ع) إما إنهم لم ينصبوا أحدا للأمور العامة وأهملوها، وإما إنهم نصبوا الفقيه لها، لكن الأول باطل فثبت الثاني، وهذا قياس استثنائي.
وكذلك فعل الإمام الخميني الذي نظر عقليا لوجوب إقامة الدولة في عصر الغيبة. وأكد في (الحكومة الإسلامية): عدم وجود النص على شخص من ينوب عن الإمام المهدي حال غيبته.
وقد رفض الإمام الخميني الأدلة العقلية والنقلية التي قدمها ويقدمها علماء الكلام الأماميون السابقون الذين كانوا يشترطون العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية في الإمام، واستخدم العقل في رفض نظرية الانتظار السلبية المخدرة التي تحرم إقامة الدولة في (عصر الغيبة) إلا للإمام المعصوم الغائب، وتساءل:· هل تبقى أحكام الإسلام معطلة حتى قدوم الإمام المنتظر؟.. ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ وهل ينبغي ان يخسر الإسلام من بعد (الغيبة الصغرى) كل شيء؟..
وضعّف عقليا الأحاديث · المتواترة والتي كان يجمع عليها الأمامية في السابق، والتي تقول:· ان كل راية ترفع قبل راية المهدي فهي راية ضلالة وصاحبها طاغوت يعبد من دون الله. وقد استخدم المقدمة الامامية الأولى في (ضرورة وجود امام في الأرض) لينطلق منها إلى إثبات (ضرورة الإمامة في هذا العصر).
وفي الحقيقة.. إن أساس المشكلة في هذه المسألة المهمة يعود إلى الدمج بين نظرية (النيابة العامة) المستنبطة من بعض الأدلة الروائية الضعيفة وبين نظرية (ولاية الفقيه) المعتمدة على العقل وعلى ضرورة تشكيل الحكومة في (عصر الغيبة) بعيدا عن شروط العصمة والنص الإلهي والسلالة العلوية الحسينية، وان الخلط بين هاتين النظريتين، أو تطوير نظرية (النيابة العامة) إلى مستوى إقامة الدولة أدى إلى جعل الفقيه بمثابة الإمام المعصوم أو النبي الأعظم وإعطائه كامل الصلاحيات المطلقة، وإلغاء الفوارق بين المعصوم وغير المعصوم، بالرغم من قابلية الأخير للجهل والخطأ والانحراف، وهو ما يتناقض مع أساس الفلسفة الأمامية القديمة حول اشتراط العصمة في الإمام.
وخلاصة القول ,بالرغم من إن الكثير من الفقهاء حديثا ,قد قالوا بنظرية ولاية الفقيه إلا إن اغلبهم حذروا من ديكتاتورية الفقيه المطلقة ولم يعترفوا بسلطة أي فقيه على فقيه آخر ولا على مقلدي الفقهاء الآخرين كما أراد الخميني في نظريته بل الحقيقة إن اغلبهم رفض هذه النظرية كما أرادها الخميني وفضلوا عليها نظرية ولاية الفقيه بالمفهوم الأولي التي جاءت به والتي تجيز لكل فقيه من الفقهاء إن يتصدوا للحكم بأنفسهم أي لا تكون محصورة بفقيه واحد؟!
يقول محمد حسن فضل الله : ولاية الفقيه نظرية لا يراها أكثر فقهاء الشيعة، وأنا لا أراها. ولا يتحتّم أن تكون الولاية للفقيه بمعنى السلطة التنفيذية. السيد أبو القاسم الخوئي لا يرى ولاية الفقيه وكذلك السيد محسن الحكيم؛ لكن نفي ولاية الفقيه من ناحية النظريّة الاجتهادية تنطلق من عدم ضرورة أن يكون الولي فقيهاً، ولا يعني عدم إسلاميّة النظام. وبتعبير آخر: إنّنا نقول إن الفقه بما هو حالة ثقافية اجتهادية لا يلازم ناحية الولاية التي ترتبط بالجانب التنفيذي، ولكن قد يجتمعان في شخص. ولكن الأساس أمران: الأوّل الكفاءة القيادية والخبرة والفضيلة، والثاني هو أن يرتكز إلى الشرع الإسلامي في إدارة الحكم.
ويقول رئيس التيار الشيعي الحر في لبنان الشيخ محمد الحاج الحسن : أن مشروع ولاية الفقيه: مشروع مؤامرة، وتآمري كبير؛ فلا سلطة للولي الفقيه على أي من خارج حدود إيران. وأما في ما يتعلق بالشيعة العرب، فنحن ندعوهم، ونقول لهم: آن الأوان لنقول كلمتنا، إننا جزء لا يتجزأ من هذه المنطقة العربية، والأمة الإسلامية. وعلينا أن نتصدى لكل المؤامرة، التي تأتينا تحت عنوان ولاية الفقيه[48].
وقال محمد جواد مغنيه في كتابه فقه الإمام الصادق: ونحن نعتقد أن المعصوم وحده هو الذي يجب اتباعه في جميع أقواله وأفعاله سواء أكانت من الموضوعات أم من غيرها أما النائب والوكيل فلا، بداهة ان النائب غير المنوب عنه والوكيل غير الاصيل وليس من الضرورة أن يكون النائب في شيء نائبا في كل شيء، وأيضا نعتقد أن من قال وادعى أن للمجتهد العادل كل ما للمعصوم هو واحد من اثنين لا ثالث لهما اما ذاهل مغفل واما أنه يجر النار على قرصه ويزعم لنفسه ما خص الله به صفوة الصفوة من خلقه وهم النبي وأهل بيته (ع) وأعوذ بالله من هذه الدعوة وصاحبها.
وقال علي الأمين معقباً : على هذا الاساس يقال بعدم ثبوت الطاعة التي كانت ثابتة للمعصوم وعدم انتقالها إلى الفقيه وإن صار حاكما بالمعنى السياسي لأن الطاعة حينئذ لا تكون لشخصه وإنما تكون طاعة الانظمة العامة والقوانين التي يتساوى فيها الحاكم والمحكوم وليست ولاية على النفس والأموال والآراء والافكار والمعتقدات فليس للحاكم أن يختزل آراء الناس برأيه وسلطته وإن كان معصوما كما كان يقول الإمام علي (ع) للذين ولّي عليهم: (فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ... فإن من استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل).
هذا إذا كان الحاكم معصوما! فكيف إذا لم يكن الحاكم معصوما فإن حق المعارضة والاختلاف يكون ثابتا بطريق أولى! لأن موقعه كحاكم سياسي لا يمنحه حق الطاعة الالهية خصوصا في عالم السياسة والادارة إذ لا يختلف اختصاص الفقهاء فيها عن اختصاص غيرهم من السياسيين حتى ينحصر الرجوع اليهم فيها كما هو الحال في الاحكام الشرعية التي يكون استنباطها من اختصاص الفقهاء وحدهم فينحصر التعرف عليها بمرجعيتهم الدينية ولذلك لم يعتبر الإمام علي انحصار الحاكمية السياسية بالامام أو الفقيه كما جاء في رده على الخوارج قائلا: (وإنه لابد للناس من أمير برأو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برّ ويستراح من فاجر)، فهو لم يذكر الموقع الديني للحاكم السياسي وإنما ذكر الوظيفة المنوطة به في ادارة شئون البلاد والدفاع عنها والمحافظة على حقوق الناس وأمنهم.
وقد ذكر في مجال آخر جملة من الاوصاف التي يجب أن تتوافر في الوالي الحاكم ليس لها علاقة بالرتبة الدينية التي يحملها إذ قال: (وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في اموالهم نهمته ولا الجاهل فيضلهم بجهله ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ولا الحائف للدول فيتخذ قوما من دون قوم ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها من دون المقاطع ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة).
والمراد من السنة هي طريقة الحكم التي كشفت التجارب صلاحها وانتفاع الناس بها كما جاء في قوله الآخر لمالك الأشتر عندما ولاه على مصر: (ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة واجتمعت بها الالفة وصلحت عليها الرعية... ).
ومن خلال الاشكاليات الواردة والمناقشات المتقدمة يظهر منشأ القول في عدم انتقال ولاية الانبياء والاوصياء الى الفقهاء ويظهر ايضا عدم انحصار الولاية السياسية بهم فضلا عن الفقهاء الذين يعتبر شأنهم في عالم السياسة شأن كل الناس الذين يتصدون للقيام بهذه المهمة مع وجود تلك الاوصاف العامة حفظا للبلاد وصونا لحقوق العباد وفي طليعتها حرية الاعتقاد والآراء والافكار كما ظهر ذلك من الآيات والروايات والكلمات التي نقلناها عن بعض العلماء.
ولا تعني ولاية الفقهاء على تقدير التوسع فيها لتشمل عالم السياسة انحصار الولاية السياسية فيهم كما يريد أصحاب هذا الرأي وحملة هذا الشعار فإن ذلك قول بلا مستند ورأي بلا دليل. وإن كان من شيء يسمى دليلا فليس سوى الرغبة في تحويل هذه المسألة الفقهية الى دعوة سياسية للشخص والنظام.
والشاهد على ذلك أن هذه الولاية حتى عند القائلين بها لم تثبت لاشخاص محدّدين وإنما هي جاءت بعنوان عام شامل لكل الفقهاء والمجتهدين فيكون تخصيص فقيه واحد بالولاية من دون غيره من الفقهاء ترجيحا بلا مرجع لأن العنوان العام الوارد في الروايات والاحاديث التي استندوا إليها يستدعي إيجاد آلية تجمع كل الفقهاء من مختلف البلدان وإشراكهم في السلطة السياسية من دون النظر إلى جنسياتهم وانتماءاتهم وهذا ما يرفضه أصحاب هذه النظرية لاعتبارات كثيرة لا تقوم على الأسس الفقهية التي قامت عليها النظرية نفسها. - ثم وماذا عن الفقهاء القائلين بعدم ثبوت ولاية الفقيه؟ فهل تعطيهم هذه النظرية ولاية لا يؤمنون بها لأنفسهم؟! وإن سلبت عنهم هذه الولاية فهل تبقى لهم من فقاهة بعدها؟! وقد رأينا ما أصاب بعض الفقهاء المنكرين لولاية الفقيه من تشهير وإبعاد ومقاطعة وإقعاد!
وإذا كان رأي القائلين بها حجة ودليلا فلماذا لا يكون رأي المنكرين لها حجة ودليلا ايضا؟! ولا يزال شعار (الموت لأعداء ولاية الفقيه) يرفع في وجه العلماء ومراجع الدين المعارضين لنظرية ولاية الفقيه حتى أثناء إلقائهم للدروس والمحاضرات الدينية وهذا يؤكد على أن مسألة ولاية الفقيه خرجت من إطارها الفقهي الأكاديمي وأصبحت مسألة سياسية بامتياز تستهدف التأييد والانتصار للفقيه الحاكم على غيره من يختلف معه في الآراء والأفكار. وفي كل الاحوال فإن ولاية الفقيه السياسية لا تخرج عن كونها صيغة خاصة بالمجتمعات غير المختلطة بالأديان والمذاهب وهي مجتمعات نادرة الوجود مع أن النظرية نفسها هي محل للجدل الواسع في الاوساط العلمية ولرفض المشهور لها مع أنهم في طليعة أهل الاختصاص المؤسسين وفيهم أرباب علم الفقه والاصول وأركان الطائفة ورؤساء المذهب.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الروايات والاحاديث لم تكن ناظرة إلى الولاية السياسية ولا إلى فكرة انحصارها بالفقهاء وإنما كانت بصدد بيان موقع العلماء في تبليغ الأحكام الشرعية والتوجيه والإرشاد كما قال الشيخ الأنصاري رحمه الله بعد استعراضه للروايات التي استولوا بها على ثبوت الولاية العامة للفقهاء كقوله عليه السلام (هم حجتي عليكم وأنا حجة الله) وقوله (مجاري الامور بيد العلماء بالله والامناء على حلاله وحرامه) وقوله (أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به) وغير ذلك من الروايات القريبة من هذا المعنى وقد قال بعد ذلك: (والإنصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدرها وذيلها يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية لا كونهم كالنبي والأئمة صلوات الله عليهم في كونهم أولى بالناس في أموالهم).
وفي كل الأحوال وعلى جميع التقديرات فإن ولاية الفقيه ليست ولاية عابرة للحدود والشعوب والمجتمعات التي لا علاقة للفقيه الحاكم بها لأنه لو جاز لهذا الفقيه أن يتدخل في قوانين وأنظمة المجتمعات الاخرى لجاز لفقيه آخر من تلك المجتمعات وصل الى السلطة فيها أن يتدخل في سلطة هذا الفقيه وحينئذ يقع الهرج والمرج ويحصل الخلل في نظام العلاقات وهو أمر مرفوض من الناحية الشرعية والعقلائية ولعله لذلك يقال إن حدود ولايته كحاكم سياسي ترتبط بالمواقع والامكنة التي يكون فيها الفقيه مبسوط اليد كما يحصل ذلك عند اختياره حاكما في مجتمع من المجتمعات إذ يكون حينئذ قادرا على إعمال ولايته بتطبيق الاحكام الشرعية وتنفيذها وليس له من ولاية على تشريع ما يتنافى معها أو ما يؤدي إلى تعطيلها وإلغائها وليس له حينئذ من خصوصية توجب طاعته وامتيازه عن سائر الحكام السياسيين سوى طاعة النظام العام وأحكامه التي يتساوى فيها هو مع غيره من الحكام والمحكومين الذين اختاروه حاكما.
ويجب الاّ يبقى الفقيه هو الخيار السياسي الوحيد للأمة لعدم اشتراط الفقاهة في القيادة السياسية كما تقدم بيان ذلك من خلال سيرة الأنبياء والأوصياء ومن خلال الروايات التي تحدثت عن مواصفات الحاكم السياسي. وما أشرنا إليه هو مؤدّى القاعدة التي استند إليها الفقهاء في الولاية نفسها وأن الأصل عدم ولاية أحد على أحد وهذا ما ينتج عنه ولاية الأمة على نفسها كما جاء ذلك في كلمات المحقق النائيني رحمه الله عند وقوع الصراع على السلطة في إيران في مطلع القرن الماضي وانقسام العلماء إلى مؤيدين لنهج المشروطة والحكومة الدستورية ومؤيدين لاستمرار النهج الملكي الاستبدادي من دون ادخال بعض الاصلاحات اللازمة عليه[49].
ويقول محمد كاظم الخاقاني[50] منتقداً لنظرية مؤيداً لنظرية شورى الفقهاء : لا بدّ من تشكيل لجان خاصة لكافة الاختصاصات تجري فيها قاعدة الشورى أيضاً حتى تتبلور النظريات وتحصل اللجان المختلفة على النظريات الراجحة بعد مناقشة الآراء فيما بين كل أهل اختصاص سواء كانت اللجان الشورائية اقتصادية أو عسكرية أو سياسية أو ثقافية وهكذا ليرفع ما حصلت عليه هذه اللجان من النظر الراجح إلى شورى الفقهاء ليحصل تشريك أهل الكفاءات لبناء مجتمعهم ولتجري قاعدة الشورى في كافة مجالات الاختصاص، ثم يكون الراجح بعد عرضه على شورى الفقهاء للنظر فيه من ناحية التطابق مع الشرع مسلماً بيد الفقيه الذي هو على رأس الشورى والمعبر عنه برئيس الدولة الإسلامية ليكون هو المنفّذ للقوانين على رأس كافة اللجان المختلفة، وان كان هذا الفقيه له كبقية الفقهاء رأي في شورى الفقهاء فيما كان يرجع للأمور العامة وأما بعض الصلاحيات الخاصة في مواطن الأمور الجزئية في مرحلة التطبيق فقد يكون الحاكم متوحداً فيها.
نعم الفقيه الذي يكون على رأس الشورى لحنكته ولمسه لواقع الزمن الذي يعيشه الأثر البليغ في إدارة دفة الأمور وإن كان ليس من حقه بناء على الولاية الوسطى التوحّد بالرأي بالنسبة إلى ما يكون من شأن شورى الفقهاء أو بالنسبة ما يرجع لبقية اللجان لأنهم أهل اختصاص فيما هم فيه إذا ثبتت صلاحيتهم الدينية وكان ما رأوه راجحاً متطابقاً مع الشرع القويم حين عرضه على شورى الفقهاء.
بالجملة إن الكثير من القوانين الإسلامية هي من ضروريات الدين فلا محلّ لرأي أو شورى بالنسبة إليها وسيكون شورى الفقهاء مشرفة لتنفيذ المنهج الإسلامي.. فمسألة الشورى هي المثل الأعلى لحرية الرأي وتحقيق التوازن بين الحاكم والرعية.
ثم دلل عل ذلك بشواهد تاريخية على جريان الشورى تكريماً لحرية الرأي بذكر ما جرى في حرب الأحزاب (الخندق) وهو من أشد الظروف التي مرّت على حياة مسلمي صدر الإسلام لكن مع ذلك نشاهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما ترك روح الحرية في مثل هذا الموطن العصيب أيضاً حيث بعث صلى الله عليه وآله وسلم على رؤساء الأنصار يشاورهم في أعضاء بني غطفان نصف ثمر تمر المدينة ثم نراه يتراجع عما رآه صلاحاً لتفتيت عضد القوم وشق صفوف الكفار ويأخذ برأي الأنصار. وفي موطن أخر نشاهد امرأة تخاطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء يدعوها للعودة إلى زوجها قائلة: يا رسول الله: أأنت آمر أم شافع؟ فلما قال لها بل شافع، أخذت تخاطبه قائلة لا أقبل لك شفاعة، فلم يتأثر منها ولم يجبرها على أمر.
ويقول أحمد الكاتب في نقده لهذه النظرية: وإذا تحررنا من نظرية (النيابة العامة) بعد وضوح ضعفها وعدم صحتها لعدم وجود (المنوب عنه : الإمام المهدي ) وعدم ثبوت ولادته، فاننا يمكن ان نقيم أساس الدولة على قاعدة (الشورى) وولاية الأمة على نفسها، بمعنى ان يكون الإمام منتخبا من الأمة ونابعا من إرادتها ونائبا عنها ومقيدا بالحدود التي ترسمها له وملتزما بالصلاحيات التي تعطيها له. وذلك لأن الأدلة العقلية تعطي للامة حق اختيار الحاكم ليحكم بالنيابة عنها، كما تعطيها الحق في ان تهيمن على الإمام وتشرف عليه وتراقبه وتحاسبه وان تعطيه من الصلاحيات بقدر ما تشاء وحسبما تشاء، وذلك لأن منبع السلطة في غياب النص الشرعي وعدم وجود الإمام المعين من قبل الله تعالى هي الأمة الإسلامية. حيث لا تعطي الأدلة العقلية الحاكم العادي (غير المعصوم) القابل للخطأ والصواب والانحراف والهدى، من الصلاحيات المطلقة مثلما تعطي للرسول المرتبط بالله عبر الوحي، ولا تساويه أبدا مع (الإمام المعصوم).
ويمكن الاستدلال على كون الأمة هي منبع السلطة بما يلي:
1 - القرآن الكريم الذي يقول:· وأمرهم شورى بينهم، والذي يتوجه في خطابه من اجل تنفيذ الأحكام الشرعية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود والجهاد والخمس والزكاة والصلاة وما إلى ذلك، إلى الأمة الإسلامية، ويلقي على عاتقها مسئولية تطبيق الدين، ولما كانت الأمة بحاجة إلى رئيس وقائد أو امام، لتنفيذ ذلك، فأنها تنتخب رجلا عالما عادلا من بين صفوفها، وتكلفه تنفيذ الواجبات العامة والقيام بمهام الإمامة الكبرى.
2 - الأحاديث الواردة عن الرسول الأعظم (ص) واهل البيت (ع) والتي تنص على الشورى، وتأمر بانتخاب الإمام العادل الملتزم بتعاليم الدين، كالحديث النبوي الذي يقول :· إذا كان امراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من باطنها. (تحف العقول ص 36)
والحديث الذي يرويه الصدوق في :(عيون أخبار الرضا) عن الإمام علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن رسول الله (ص) انه قال:· من جاءكم يريد ان يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فان الله عز وجل قد إذن ذلك. (المصدر ج2 ص 62)
وقول الإمام علي (ع) في رسالة له إلى معاوية بن أبى سفيان :·... الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت امامهم أو يقتل.. ان لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثا ولا يقدموا يدا ولا رجلا ولا يبدءوا بشيء قبل ان يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة.( كتاب سليم بن قيس الهلالي ص 182 والمجلسي: بحار الأنوار ج8 ص 555 من الطبع القديم)
وما في كتاب صلح الإمام الحسن (ع) مع معاوية على :· ان يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ( المجلسي: بحار الأنوار ج44 ص 65 باب كيفية المصالحة من تاريخ الإمام الحسن المجتبى)
3 - العقل، الذي يحكم بالشورى كأفضل طريق لانتخاب الإمام في حالة عدم وجود النص والتعيين من قبل الله تعالى، وهو ما يلتزم به العقلاء في كل مكان وفي مختلف الأديان والمذاهب اكثر مما يلتزمون بأسلوب الوراثة الملكية أو الحكومات العسكرية القائمة على القوة والإرهاب.
4 - الواقع، الذي يثبت عدم وجود امام ظاهر معين من قبل الله لقيادة الأمة الإسلامية والشيعة منذ اكثر من ألف عام، وعدم صحة نظرية (النيابة الخاصة أو العامة) القائمة على فرضية (وجود ولد للإمام الحسن العسكري) لم يظهر ليقوم بواجبات الإمامة منذ اكثر من ألف عام.
يقول الشيخ حسين علي المنتظري:· مع عدم التمكن من الإمام المعصوم فان الإمامة واحكامها لا تعطل.. بل تصل النوبة إلى الإمام المنتخب من قبل الأمة ويجب الإقدام على اختياره وانتخابه بشرائطه. (دراسات في ولاية الفقيه ج1 ص883 )
وكان الميرزا النائيني قد قال في :(تنبيه الأمة وتنزيه الملة) :· ان اصل الحكومة الإسلامية شوروية، وحق من حقوق عامة الناس، وان الحاكم العادل المثالي لا يوجد، وهو كالعنقاء أو أعزّ من الكبريت الأحمر، وكذلك الأئمة المعصومين غير موجودين....
وإذا ثبت قانون الشورى كقاعدة وحيدة لشرعية الحكم في ظل غياب النص من الله وعدم صحة نظرية(النيابة العامة) فانه ينعكس على عدة مجالات، ويؤدي إلى ما يلي:
1 - الشورى في التنفيذ، وهذا يعني : ضرورة انتخاب الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومبايعة الأمة له، وضرورة موافقة الأغلبية المطلقة على قراراته وسياسته العامة، وذلك بعرضها على مجلس الشورى أو التصويت عليها من قبل الشعب، وذلك لأن انتخابه الابتدائي لايعني التسليم امام كل قرار يتخذه حتى إذا لم يحضَ برضا الأمة. ويعني ذلك أيضا: ضرورة تصويت مجلس الشورى على الهيئة التنفيذية (الوزارة ( التي ينتخبها الرئيس المنتخب لمساعدته في عملية التنفيذ.
وهنا لا بد ان نستشهد بقول الشيخ النائيني في (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) :· ان رأي الأكثرية من المرجحات لدى التعارض، ويستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة. وهو الحل الوحيد لحفظ النظام لدى اختلاف الآراء، وأدلة لزومه نفس أدلة لزوم حفظ النظام، وقد التزم الرسول الأكرم في موارد عديدة بآراء الأكثرية كما في أحد والأحزاب، والتزم الإمام علي بن أبى طالب في قضية التحكيم برأي الأكثرية وقال:· انها لم تكن ضلالة بل سوء رأي، ولأن الأكثر قالوا واتفقوا على ذلك فوافقت... فالحكام البشر العاديون لا بد من تحديدهم، وإذا كانت العصمة أو التقوى تحدد الحاكم وتمنعه من الطغيان والتجاوز والاعتداء فاننا يمكن ان نصل إلى هذه النتيجة بالقوانين المسددة التي تحدد الصلاحيات للحاكم، وذلك عن طريق :
1 - الدستور الذي يحدد الحقوق والواجبات للحاكم والمحكومين...
2 - ترسيخ مبدأ المراقبة والمحاسبة والمسئولية عبر مجلس شورى من العقلاء والخبراء والقانونيين والسياسيين، وهو الذي يمنع الولاية من التحول إلى الملك والمالكية....
ان طريقة الشورى تختلف عن عملية قيام الفقيه ( النائب العام المعين والمجعول من قبل الإمام المهدي) بتشكيل الحكومة الإسلامية، بمجرد حصوله على القوة والأنصار، حتى إذا لم تقبل به أكثرية الأمة. ويمتاز نظام الشورى عن نظام (النيابة العامة) في ان الحاكم الأعلى ( الإمام ) فيه، غير مقدس، وذلك بمعنى عدم اتخاذ الحاكم صفة دينية إلهية، حتى لو كان مجتهدا عادلا، وان قراراته غير مقدسة، وان كانت محترمة في إطار الدستور، وبعبارة أخرى : ان الحاكم في نظام الشورى يظل مدنيا وشعبيا ولا يرقى لكي يصبح ظل الله في الأرض.
و بعد.. فان الأدلة العقلية لا تحتم ضرورة تبوؤ (الفقهاء) بالمعنى المصطلح عليه، لمنصب القيادة العليا، مع إمكانية تصدي عدول المؤمنين الأكفاء لهذا المنصب وخضوعهم لمجلس تشريعي (برلمان ) يعتمد التفقه في الدين ويراعي تطابق الأحكام والقوانين مع الشرع المقدس.
2 - الشورى في التشريع، وهذا يعني : ضرورة انتخاب مجلس نواب من الأمة للقيام بمهمة تشريع الأحكام والقوانين الثانوية الجديدة التي لم ينص عليها الإسلام، والقابلة للاجتهاد.
وتختلف عملية التشريع هذه، عن عملية التشريع القائمة على نظرية (النيابة العامة) في ان عملية التشريع السابقة كانت تكتسي صفة الشرعية والقداسة والدين بمجرد قيام فقيه ما باستنباط حكم فقهي في قضية معينة، بينما تعتبر (الشورى ) كل عمل فقهي خارج حدود الشرعية والقانونية الدستورية مجرد رأي شخصي لا تتوفر فيه صفة الإلزام إلا بعد عرضه على مجلس الشورى والتصويت عليه حسب الدستور.
3 - الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
ان نظرية (ولاية الفقيه) القائمة على نظرية (النيابة العامة) كانت تركز عامة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في يدي رجل واحد هو (الفقيه) باعتباره نائبا عن الإمام المهدي، بينما تتيح نظرية (الشورى) للامة القيام إذا شاءت بالفصل بين السلطات، وإعطاء الإمام أو الحاكم الأعلى مهمة القيادة والتنفيذ فقط، وايكال عملية التشريع إلى مجلس من النواب المنتخبين من قبل الأمة، وايكال مهمة القضاء إلى قضاة مختصين ومستقلين.
وفي هذه الحالة لا تشترط نظرية (الشورى) بأن يكون الحاكم الأعلى ( فقيها قانونيا )، كما كانت تفعل نظرية (النيابة العامة) وتكتفي باشتراط العلم والكفاءة الإدارية والسياسية والعدالة والأمانة، وذلك لخضوع الحاكم إلى مجلس من النواب الذين يعتمدون التفقه في الشريعة الإسلامية.
وهذه ليست صورة مبتكرة نقدمها عن الحكومة الإسلامية، بل هي مصداق للحديث الشريف الذي يثني على الأمراء الذين يقفون على أبواب العلماء ويذم العلماء الذين يقفون على أبواب الأمراء، والذي يفيد ضرورة خضوع السلطة التنفيذية (الأمراء) إلى السلطة التشريعية (العلماء) وينهى عن العكس.
والسؤال الآن هو : أين إذن موقع (الشورى) من نظرية (الإمامة الإلهية ) ولماذا رفض المتكلمون (الاماميون ) الإيمان بها ؟.. ولماذا قالوا باشتراط العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية في (الإمام) ؟.. ومن أين جاؤا بأقوالهم تلك ؟.. هل اختلقوها ؟ أم اقتبسوها من أهل البيت (ع) ؟.. وبالتالي فهل يشكل القول بنظرية (الشورى ) خروجا عن مذهب أهل البيت ؟ أم عودة إلى صفوفهم ؟
ان الإجابة عن هذه الأسئلة، والبحث عن اصل نظرية الإمامة ومنشئها وموقف أهل البيت منها هو موضوع الجزء الأول من هذا الكتاب : (تطور الفكر السياسي الشيعي) وقد بحثنا فيه بالتفصيل كل تلك المواضيع، واثبتنا التزام أهل البيت (ع) بمبدأ الشورى في الحكم والحياة، وعدم تبنيهم لنظرية المتكلمين :( العصمة والنص وتوارث السلطة في سلالتهم ).
و ختاما نقول : ان الفكر السياسي الشيعي لن يستطيع التقدم نحو الإمام وإرساء قواعد (الشورى) إلا بالسير على نهج الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام)، ولن يستطيع تحقيق ذلك إلا بالتخلص من أوهام المتكلمين وفرضياتهم الخيالية التي ادخلوها في تراث أهل البيت، وعلى رأسها فرضية ولادة ووجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) التي لم يقل بها أهل البيت (ع) ولم يعرفوها في حياتهم، والتي تسببت في أبعاد الشيعة عن مسرح التاريخ قرونا طويلة من الزمن [51].
يقول عبدالخالق حسين : الخميني يعطي صلاحيات واسعة للوليّ الفقيه، فيرى أن حكومة ولاية الفقيه هي شعبة من ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدَّمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.. فالولي الفقيه فوق الدستور والقوانين الوضعية، وقراراته تعتبر قوانين إلهية واجبة التنفيذ.
لذلك نرى في جمهورية إيران الإسلامية، ورغم وجود رئيس جمهورية، ومجلس برلمان منتخبين من قبل الشعب، إلا إن هؤلاء ليسوا صناع القرارات السياسية المهمة الحقيقيين، فأي قرار يتخذه رئيس الجمهورية، أو قانون يصدره البرلمان لا يمكن وضعه موضع التنفيذ إلا بعد أن يوافق عليه الولي الفقيه ومجلس حماية الدستور الذي هو الآخر غير منتخب من قبل الشعب، ووظيفته اختيار المرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية والنيابية، ومن صلاحياته منع أي مرشح من الترشيح إذا شك في ولائه للولي الفقيه. ومن هنا نعرف أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية وغيرها ما هي إلا إجراءات شكلية لا قيمة لها في ظل حكم ولاية الفقيه. وباختصار شديد، وعلى العكس من الديمقراطية، لا تؤمن ولاية الفقيه بقدرة الشعب على حكم نفسه، إذ يعتبر الولي الفقيه هو وحده الذي يمتلك ناصية الحقيقة والعقل والمعرفة والعدالة، والقيِّم على شؤون أبناء الشعب، ومعاملة الشعب كأطفال قاصرين ليس لهم القدرة على إدارة شؤونهم بأنفسهم. وهذا يؤكد بصورة واضحة ومن دون أي لبس عدم توافق حكم ولاية الفقيه مع الديمقراطية.
وخلص إلى القول :
1 - إن (نظرية ولاية الفقيه) عند الشيعة الإمامية تعادل نظرية (الحاكمية لله) عند الإسلام السياسي السني (الأخوان المسلمون). وقد تبناها حزب الله منذ تأسيسه كأيديولوجية دينية مرشدة في عمله، كما وتبناه المجلس الإسلامي الأعلى في العراق والذي تأسس في إيران في الثمانينات عندما كان معظم قادة المعارضة الشيعية فيها.
2 - ولاية الفقيه تكرس الحكم المطلق في يد رجل واحد تسبغ عليه صفة الكمال والعصمة قريبة من النبوة، تتوفر فيه العلوم الدينية والعدالة، ويكون نائباً للإمام الثاني عشر الغائب (المهدي المنتظر) وهو مرشد الثورة الإسلامية في إيران في الوقت الحاضر، وطاعته واجبة على كل مسلم ومسلمة، واعتبار الشعب كصغار قاصرين، وبذلك فالنظرية على الضد تماماً من النظام الديمقراطي.
3 - تكرس ولاية الفقيه الولاء للأجنبي وللطائفة، أي للحاكم المطلق في إيران بدلاً من الولاء للوطن وحكومته المنتخبة من الشعب، وبذلك فهي تكرس الطائفية وتؤجج الصراع الطائفي بين أبناء الشعب الواحد ذي المكونات الدينية والمذهبية المتعددة.
4 – الشعوب متعدد الأديان والطوائف، ولا يصلح لها إلا نظام ديمقراطي يشترك فيه ممثلو جميع مكوناته في إدارة شؤون البلاد بالتوافق في نظام دولة المواطنة، لذلك فإذا ما قيّض لأي حزب إسلامي شيعي مؤمن بولاية الفقيه أن يحكم البقية، فلا بد من أن يفرض هذه النظرية على بقية مكونات الشعب بالقوة، ولذلك نعتقد أن وصول هكذا حزب للسلطة وإنفراده بالحكم أمر مستحيل. وبالتأكيد سوف لن تقبل المكونات الأخرى هذا النوع من الحكم القسري الشمولي، لذلك فليس أمام هذه المكونات سوى مواصلة النضال من أجل حكم ديمقراطي ينصف الجميع[52].
ويقول توفيق السيف ناقلا عن بعض الفقهاء: "جوهر الخلاف هو طبيعة الولاية التي تمنحها النظرية للفقيه، وحدود هذه الولاية.. حيث يجري النقاش بصورة مركّزة حول قدرة كلّ من الأدلّة التي قدّمها أصحاب النظرية على حمل المدلول"[53].
وألّف آية الله محسن كديوَر كتابا خاصّا عن تعدد نظريات لحكم في الفقه الشيعي، وقد كتب في مقدمة كتابه أن "فقهاء الشيعة اقترحوا حتى لآن ما لا يقلّ عن تسع نظريات مختلفة في باب الحكم. بل أن النظرية الرسمية (الحاكمة) تتطلب للوقوف عليها بدقة، أن تُقرأ على ضوء النظريات الأخرى وتقارَن بها". هذا الكلام أغضب (الوليّ الفقيه خامنئي) مما تسبب في اعتقال كديوَر في الفترة 1999 - 2000م ليسجن في سجن إيفين الرهيب مع السفلة والمجرمين!.
وأهم النظريات التي ذكرها:
-
الولاية العامّة المطلقة، التي لا تحدّها حدود! وهي نظرية خميني، والتي تُحكم بها إيران اليوم، وتتبنّاها أذنابها في بعض الدول الأخرى، كحزب الله في لبنان، وجمعية الوفاق في البحرين.
-
الولاية العامّة المطلقة لشورى الفقهاء، أي أن الفقهاء المراجع يشكلون مجلسا مشتركا للحكم، فلا تكون السلطة في يد شخص واحد. وهي نظرية محمد الشيرازي منافس الخميني.
-
الولاية الخاصّة الجزئية، أي في أمور محددة فقط، ويتبنّاها كثير من فقهاء الشيعة، كمحسن الحكيم (ت 1970م)، وأبي القاسم الخوئي (ت 1992م)، وعلي السيستاني.
-
ولاية الأمة على نفسها، وهي نظرية محمد مهدي شمس الدين (ت 2001م) والتي سرق فكرتها من منهجية الشورى السنّية!
-
نظرية الخلافة والشهادة، والتي قال بها محمد باقر الصدر (ت 1980م)، وهي مزيج من نظريتي خميني وشمس الدين!
ثم تكلم في لمن كانت الغلبة؟ وقال: إن النظرية التي سادت وتمكنت وتحولت إلى نظام للحكم في إيران هي نظرية خميني (ولاية الفقيه العامّة المطلقة). والسبب في غلبة هذه النظرية أن خميني وأتباعه قد فرضوها بالقوة، غصبا عن أنوف المراجع الآخرين! فرضوها بقوة تقدّر بـ نصف مليون مسلّح من الباسداران (الحرس الثوري)، وثلاثة ملايين مسلّح من الباسيج (مليشيا التعبئة)!!!
ومن عجائب هذه النظرية :
1) ينتخب الشعب رئيس الجمهورية، ويعزله الوليّ الفقيه متى شاء!!
2) ينتخب الشعب مجلس الشورى، ويسلّط الوليّ الفقيه على هذا المجلس مجلسا آخر هو مجلس صيانة الدستور ليحدّ من صلاحيات المجلس المنتخب!!
3) يتم اختيار الوليّ الفقيه من قبل مجلس الخبراء. وهذا المجلس أعضاؤه من الموالين للوليّ الفقيه ومعيّنين بتأثير مباشر أو غير مباشر منه!!
ثم يقولون في الشورى، هذا المبدأ الإسلامي العظيم : "إن الشورى والانتخابات والاختيار على أساس الانتخاب من البدع التي جاءتنا من الغرب، ومن ثقافة المخالفين في الولاية (أي أهل السنّة والجماعة).. ولم يكن له عين ولا أثر في الإسلام"!!. كما قال آية الله العظمى محمود الهاشمي الشاهرودي رئيس السلطة القضائية في إيران وأحد أعمدة نظام الوليّ الفقيه.
فأدت هذه النظرية إلى إلغاء دور الأمة، وإعطاء صفة القداسة لفتوى العلماء، سلب حق الأمة في الاختيار، وهو ما أكده أيضا في خطاب بعثه لخامنئي عندما كان رئيسا للجمهورية فقد أجاز الخميني لوزير العمل تطبيق بعض القوانين التي لم يصوت عليها مجلس المحافظة على الدستور فأثارت امتعاض رئيس الجمهورية خامنئي فبعث الخميني إليه برسالة يقول فيها: "كان يبدو من حديثكم في صلاة الجمعة ويظهر أنكم لا تؤمنون أن الحكومة التي تعني الولاية المخولة من قبل الله إلى النبي الأكرم- صلى الله عليه وسلم- مقدمة على جميع الأحكام الفرعية.. ولو كانت صلاحيات الحكومة (أي ولاية الفقيه) محصورة في إطار الأحكام الفرعية الإلهية لوجب أن تلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم- وأن تصبح بلا معنى.. ولا بد أن أوضح أن الحكومة شعبة من ولاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم- المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.. وتستطيع الحكومة (ولاية الفقيه) أن تلغي من طرف واحد الاتفاقات الشرعية التي تعقدها مع الشعب إذا رأتها مخالفة لمصالح البلد والإسلام.. إن الحكومة (ولاية الفقيه) تستطيع أن تمنع مؤقتا في ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك، أن تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية، وما قيل حتى الآن وما قد يقال ناشئ من عدم معرفة الولاية المطلقة الإلهية".
ويقول رمضان الغنام أن هذه الفكرة " هي بالمعنى الدقيق: فكرة حلولية، دخلت على الفكر الشيعي عن طريق الفكر النصراني، القائل: إن الله تجسّد في المسيح، والمسيح تجسّد في الحبر الأعظم. ولازالت صورة رجل الدين الإيراني محمد تقي الدين يزدي عالقة بأذهان الكثيرين ممن لهم إطلاع على الشأن الإيراني، حيث انتشرت صورة له وهو يرتمي على الأرض ليقبل حذاء المرشد الإيراني الأعلى "علي خامنئي". كما أن فتواه - أي يزدي -بكفر وردة من ينكر ولاية الفقيه، قد أخذت من الشهرة حظا وافرا.
إن ما فعله الخميني، ويفعله الآن خامنئي، كان تحت غطاء شرعي، وهذا الغطاء بدعة تفتق بها عقل الخميني إبان ثورته التي نادت بالحرية لشعبه ثم عاملته بأقصى أنواع الدكتاتورية، حيث أعطى لنفسه أكثر مما يعطى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأناب نفسه عن الله في الأرض، وهذا الغطاء هو ما يسمي عند الشيعة "بولاية الفقيه "، والذي استمده من بعض أئمة الشيعة المتأخرين، حيث كان لهذه النظرية إرهاصات سابقة للخميني بحوالي ثلاثة قرون من الزمان أو يزيد، بسبب حيرة الشيعة في عصر الغيبة.
لقد كان البابا في عصر محاكم التفتيش يحكم أوربا باسم السلطة الإلهية المطلقة، حيث كان يأمر بالإعدام والحرق والسجن،... وقد دخلت هذه البدعة إلى الفكر الشيعي بعد الغيبة الكبرى، وأخذت طابعاً عقائديّا، عندما أخذ علماء الشيعة يسهبون في الإمامة، ويقولون: بأنها منصب إلهيٌّ، أنيط بالإمام، كخليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبما أن الإمام ـ في اعتقاد الرافضة ـ حيٌّ، لكنه غائب عن الأنظار، ولم يفقد سلطته الإلهية بسبب غيبته فإن هذه السلطة تنتقل منه إلى نوّابه، لأن النائب يقوم مقام المنوب عنه في كل شيء".
إن إيراد كل ما من شأنه أن يعد نقداً لهذه النظرية وبالأخص من داخل البيت الشيعي يخرجنا عن خطة الكتاب والذي رأينا أن يكون مختصراً. وحسبنا من جعل كل التالي الذي جاء به الدستور الإيراني في يد شخص واحد حجة في إثبات تهافت هذه النظرية.
تنص المادة 110 من الدستور الإيراني على الآتي:
وظائف القائد وصلاحياته:
1 - وضع السياسات العامة لنظام جمهورية إيران الإسلامية بعد التشاور ف على حسن إجراء السياسات العامة للنظام.
3 - إصدار الأمر بإجراء الاستفتاء العام.
4 - تولي القيادة العامة للقوات المسلحة.
5 - إعلان حالة الحرب والسلام والتعبئة العامة.
6 - نصب وعزل وقبول استقالة كل من:
أ) فقهاء مجلس صيانة الدستور.
ب) أعلى مسؤول في السلطة القضائية.
ج) رئيس مؤسسة الإذاعة والتليفزيون في جمهورية إيران الإسلامية.
د) رئيس أركان القيادة المشتركة.
هـ) القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية.
و) القيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي.
7 - البت في الخلافات وتنظيم العلاقة بين السلطات الثلاث.
8 - حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام.
9 - إصدار قرار تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب أما بالنسبة لصلاحية المرشحين لرئاسة الجمهورية من حيث توافر الشروط المعينة في هذا الدستور فيجب أن تحصل قبل الانتخابات على موافقة مجلس صيانة الدستور وفي الدورة الأولى يجب أن تحصل على موافقة القيادة.
10 - عزل رئيس الجمهورية مع مراعاة مصالح البلاد وذلك بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن أداء وظائفه القانونية أو بعد رأي مجلس الشورى الإسلامي بعدم كفاءته السياسية على أساس المادة 89.
11 - العفو أو تخفيف عقوبات المحكوم عليهم في إطار المبادئ الإسلامية بعد اقتراح رئيس السلطة القضائية ويستطيع القائد أن يوكل شخصاً آخر لأداء بعض وظائفه وصلاحياته.
وقبل أن نختم الكلام في نقد نظرية ولاية الفقيه، لا نرى بأساً من ان نعرج ولو قليلاً على ذكر نظرية شورى الفقهاء وهي نظرية التيار الآخر للشيعة والمناوئ لنظرية ولاية الفقيه، وإن كان هذا الكتاب غير مخصص للكلام في هذه النظرية إلا انها لا تخلو من مطاعن فقد طبّقت في إيران بعد ثورة التنباك بداية القرن الماضي حين أسسّ العلماء مجلساً فقهائياً لقيادة البلاد وآلعباد عام 1906م. لكن ذلك المجلس لم يستطع عملياً من قيادة الأمة وأداء واجباته الشّرعية لدليلين:
الأول: كثرة الأجتهادات والتناحر والخلاف بين الفقهاء أنفسهم وعدم وجود من يستطيع حل الخلافات بينهم من فوق خصوصا في المسائل المصيرية ولهذا إستغلت الأطراف المناوئة (الأنكليز ومعهم الشاه) ذلك الوضع وسيطروا على أوضاع الناس وبالتالي الحكم ليُذيقوا الأمة الأمرين بل وصل الأمر بالفقهاء لئن يفتي بعضهم بإرقامة دم فقهاء آخرين. كما حدث مع آية الله العظمى فضل الله النوري ألذي قتل على يد مقلّدي مراجع آخرين لأنه لم يقبل بالمشروطة (صيغة نظام الحكم في وقتها) إلا بشروط بينما قبلها العلماء الآخرين بدون قيد أو شرط حيث كان فضل الله النوري يرى بوجوب المشروطة المشروعة!
ولاية الفقيه عند أهل السنة
تسربت آراء الشيعة المتعلقة بنظرية ولاية الفقيه إلى بعض أهل السنة فتبنوها جهلاً منهم بمقاصدها وإن أخذت صور أخرى كما يظهر في كتابات الشيخ ياسر البرهامي رغم معرفته بكثير من عقائد الشيعة الفاسدة. ولكن قبل بيان ذلك لا بد من الكلام في كيفية ثبوت الخلافة أو الولاية أو الإمامة فى الإسلام عند أهل السنة. فهذه المسألة تثبت بأحد ثلاثة أمور:
الأول: اختيار أهل الحل والعقد له كما حصل لأبى بكر رضى الله تعالى عنه، فإن بيعته تمت بإجماع أهل الحل والعقد.
ثانيًا: إذا عهد ولى الأمر إلى أحد من بعده فإنه يلزم طاعته فى ذلك كما عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما.
الثالث: إذا تغلب على المسلمين بسيفه وأخضعهم لطاعته كما حصل لعبدالملك بن مروان وغيره من ملوك المسلمين الذين يخضعون الناس بالسيف حتى ينقادوا لهم، يلزم المسلمين طاعتهم فى ذلك لأجل جمع الكلمة وتجنيب المسلمين سفك الدماء واختلاف الكلمة، بهذه الأمور الثلاثة تنعقد الولاية لولى الأمر[54].
فإذا انعقدت الولاية لأحد بأى صورة من هذه الصور كان للوالى كل الحقوق الشرعية الثابتة لولاة الأمور؛ لأنه فى هذه الحالة يكون إمامًا شرعيًّا.
والذى ينظر إلى ولاة أمور المسلمين اليوم يجد أن أكثرهم قد تولوا الأمر بأحد هذه الصور، وعليه فلا يجوز لأحد أن يلغى ولايتهم الشرعية وإن فقدوا شيئًا من شروط الإمامة.
قال الإمام الشافعى: كل من غلب على الخلافة بالسيف حتى يسمى خليفة ويجمع الناس عليه فهو خليفة[55].
وقال الحافظ ابن حجر: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهما[56]ء.
ومن أجل ذلك يذهب علماء الأمة وأئمة السلف فى هذا الزمان إلى إثبات إمامة ولاة أمور المسلمين، وأن ولايتهم ولاية شرعية، ويوجبون على الأمة طاعتهم فى المعروف والصبر على ما يكون منهم من منكرات وظلم، وتحريم الخروج عليهم.
ومع ثبوت هذا الإجماع عن أهل السنة فقد خالفه ياسر برهامى وقال بقول الشيعة الاثنى عشرية وتبنى نظرية الخمينى ولاية الفقيه. يقول في كتابه فقه الخلاف : وهذه المسألة، يعنى عدم اعتبارهم ولاة أمور شرعيين، ليست مبنية على تكفير أعيانهم من عدم تكفيرهم... اهـ. وغيره من النقول الكثيرة الموجودة فى هذا الكتاب[57].
فلما انتهى من تقرير هذا الأصل الفاسد المخالف لإجماع أهل السنة، انتقل إلى المرحلة الثانية وهى الحديث عن الحل الذى يراه لهذه المعضلة العظيمة حتى يظهر الإمام. فيقول : والعلاج الذى نراه لهذا السبب من أسباب الاختلاف- أى عدم وجود الإمام- جمع الناس حول علمائهم، فهم فى الحقيقة أولو الأمر منهم؛ لأنهم الذين يمكنهم أن يقودوهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. واجتماع الناس عليهم من أسباب قوة الصحوة وتأثيرها فى المجتمعات المسلمة الجريحة بجراح الكفار والمنافقين، ثم هؤلاء العلماء عليهم أن يختاروا من بينهم أمثل من يقود المسلمين فى ملماتهم ومهماتهم، ولا سبيل إلى أن يصبح أهل الحل والعقد الحقيقيون الذين هم أهل العلم من أهل السنة والجماعة أهل قوة وتأثير إلا بجمع الناس عليهم، ورد أمرهم إليهم، فإن واجب المسلمين حال غياب الإمام أن يكون العلماء هم ولاة الأمور[58].
وهذا بعينه كلام الخميني الذي قال : فى عصر غيبة ولى الأمر وسلطان العصريقوم نوابه العامة وهم الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى والقضاء مقامه فى إجراء السياسات وسائر ما للإمام عليه السلام إلا البدءة بالجهاد[59].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:أمر النبى صلى الله عليه وآله وسلم بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين الذين لهم سلطان يقدرون على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شىء أصلا[60].
فلو طبقنا هذه النظرية مثلا في بلد كمصر حيث ينتمي لها ياسر البرهامي، فإن الواقع يشهد الآن أن كل مجموعة أو طائفة تعتقد أن شيخها أعلم وأفقه وأمثل من غيره، ولذلك فهى ستتخذه إمامًا، له كل الحقوق الشرعية للإمام، وعلى ذلك فسيكون فى مصر وحدها آلاف إن لم يكن ملايين الأئمة والولاة، كل مجموعة لها والِ ورئيس، فكيف يعيش الناس وكيف تستقيم أمورهم؟ فكيف يكون التعامل إذا خرج من هذه المجموعة من هو أعلم من إمامها، هل تنزع الولاية من الأول وتعطى للثانى؟ أو من اقتنع بأن الثانى أعلم وأنه أحق بالولاية يكوِّن جماعة سرية ليخرجوا على الإمام الأول؟ وكيف يكون الحال إذا أصر على الولاية فاعتقلهم وعذبهم فهل يحل قتله وقلب نظام الحكم؟
سئل الشيخ ابن عثيمين[61]: ما حكم إعطاء البيعة لأمير من أمراء الجماعات التى تدعو إلى الإسلام؟ فأجاب: أما بالنسبة لإعطاء البيعة لرجل فهذا لا يجوز؛ لأن البيعة للولى العام على البلد، وإذا أردنا أن نقول: كل إنسان له بيعة. تفرقت الأمة وأصبح البلد الذى فيه مائة حى من الأحياء له مائة إمام وولاية، وهذا هو التفرق فما دام فى البلد حاكم شرعى فإنه لا يجوز إعطاء البيعة لأى واحد من الناس.
فهؤلاء الإخوة يريدون أن يكونوا طوائف لكل طائفة أمير بناء على أن الحاكم عندهم ليس حاكمًا شرعيًّا فى نظرهم.
نقول لهم: لا يجوز لكم تفتيت الأمة بأن يكون لكل طائفة أمير، هذا خطأ عظيم، وقد أخبر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أنه ليس من هؤلاء فى شىء.[62]
والكلام في الباب فيه طول لا يناسبه هذا المختصر، ولعل مسك الختام عود على بدء لنذكر تجربة عاشها أحد المفكرين الشيعة الأحرار يلخص موضوع الكتاب، ننقلها جلها لما فيها من فائدة.
يقول أحمد الكاتب : كانت صدمتي الكبرى عندما وجدت مشايخ الفرقة الاثني عشرية كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والنعماني والطوسي، يصرحون ويلوحون بعدم وجود دليل علمي تاريخي لديهم على وجود وولادة (ابن) للامام الحسن العسكري، وانهم مضطرون لافتراض وجود ولد له لكي ينقذوا نظرية (الإمامة الإلهية) من الانهيار. ويقولون: نحن بالخيار بين الإيمان بذلك الولد المفترض، وبين رفض نظرية الإمامة، فإذا كانت نظرية الإمامة صحيحة وقوية وثابتة، علينا أن نسلم بوجود ولد في السر، حتى لو لم تكن توجد عليه أدلة شرعية كافية، وإذا لم نقتنع بوجود ذلك الولد، فعلينا التراجع عن نظرية الإمامة، وهذا أمر غير ممكن، فإذن علينا التسليم والقبول بوجود ولد في السر سوف يظهر في المستقبل، وأنه المهدي المنتظر...فوجدت نفسي أمام تحد داخلي رهيب، فاما أن تكون نظرية الإمامة صحيحة أو لا تكون. وبما أنى لم اقتنع بوجود (الامام الثاني عشر) فقد كان لزاما عليّ أن أبحث موضوع الإمامة لكي أرى مدى صحته. وتركت موضوع الامام المهدي جانبا، ورحت أقرأ ما يتعلق بموضوع الإمامة من مصادر كتب الشيعة القديمة التي لم أقرأها من قبل، ولا توجد ضمن البرنامج الدراسي للحوزة، ما عدا كراس صغير للشيخ نصير الدين الطبرسي، يعرف باسم (الباب الحادي عشر) فقرأت (الشافي) للسيد المرتضى، و(تلخيص الشافي) للشيخ الطوسي، وكتب الشيخ المفيد المتعددة وكذلك ما توفر من كتب حول الموضوع في مكتبات مدينة قم وطهران ومشهد.
وكانت مفاجأتي الثانية أو الثالثة عندما اكتشفت أن نظرية (الإمامة الإلهية) الطافية على سطح التاريخ والفكر السياسي الشيعي ما هي الا من صنع (المتكلمين) ولا علاقة لها بأهل البيت. وذلك لأنها تتعارض مع أقوالهم وسيرتهم، ولا يمكن تفسيرها الا تحت ستار (التقية) التي كان يقول بها (الباطنيون) الذين كانوا ينسبون الى أئمة أهل البيت ما يشاءون من نظريات وأقوال تتنافى مع مواقفهم الرسمية، بحجة الخوف من الحكام ومن إبداء رأيهم بصراحة.
ووجدت أن نظرية أهل البيت السياسية ترتكز على مبدأ (الشورى) في حين أن (الإمامة الإلهية) تقوم على تأويلات تعسفية للقرآن الكريم وعلى أحاديث مشكوك بصحتها، وأنها لا تمتلك أي سند تاريخي، حيث كان أئمة أهل البيت يرفضون النص على أحد من أبنائهم أو الوصية اليه بالإمامة، ولذلك قال (المتكلمون الباطنيون) بأن الإمامة تقوم على علم الأئمة بالغيب وعمل المعاجز، وهذا ما يصعب إثباته في التاريخ الشيعي وما كان يرفضه أهل البيت أنفسهم، فضلا عن العقل والشرع. إضافة الى تعرض نظرية الإمامة التي كان يقول بها فريق صغير باطني من الشيعة في القرنين الثاني والثالث الهجريين، الى امتحانات عسيرة تتعلق بمسألة عمر الأئمة الصغير مثل الامام الجواد والهادي والإمام الثاني عشر المفترض، حيث كان كل واحد منهم لا يتجاوز السابعة.
وأدركت عندها أن نظرية الإمامة المفتعلة والمنسوبة الى أهل البيت كذبا وزورا، وصلت الى طريق مسدود بوفاة الامام الحسن العسكري دون خلف من بعده، وأن بعض أعوانه الانتهازيين ادعوا وجود ولد له في السر وخلافا لقانون الأحوال الشخصية الإسلامي، من أجل إنقاذ نظريتهم الباطلة من الأساس. وهكذا أسسوا الفرقة (الاثني عشرية) في غيبة من وجود أحد من أئمة أهل البيت...وكان التوصل الى هاذين الموضوعين يشكل نقطة تحول جذرية في حياتي ومسيرتي وعلاقاتي. وبما أنى كنت أعيش في إيران في ظل نظام ولاية الفقيه، فلم يكن من السهل البوح بهذه النتائج الا لدوائر ضيقة جدا من الأصدقاء والزملاء والأساتذة. أول من حدثته عن الموضع كان والدي العزيز (رحمه الله) الذي تجاوب معي تماما وكأنه ينتظر ما أقول، أما والدتي فقد امتعضت كثيرا وحزنت وتأسفت على أن يكون ثمرة حياتها تأتي بهذه النتيجة وهي إنكار نظرية الإمامة لأهل البيت، ونفي وجود الامام الثاني عشر. ولكنها بعد فترة وبعد حوار طويل معي ومع والدي، قبلت بالفكرة بعد أن تفهمتها جيدا. لقد كانت امرأة مؤمنة جدا ومحبة لأهل البيت ومثقفة بالثقافة التقليدية، وقد ربتني هي على الإيمان بوجود الامام المهدي وانتظاره، ولكنها لم تكن انسانة متعصبة أو متحجرة، وأصبح والديّ كلاهما من أشد المدافعين عن أفكاري والمبشرين بها بين الأهل والأقارب والأصدقاء. وتحملا من أجل ذلك كثيرا من المعاناة والمقاطعة والأذى.
أبرز من ذهبت اليه للحوار معه، كان مؤسس الحركة المرجعية، المرجع السيد محمد الشيرازي، وكان قد سمع بعض الشيء عني، فطرح أثناء زيارته في مكتبه في قم، موضوع المصير البائس الذي يتعرض له من ينكر حقوق أهل البيت. وضرب لذلك مثلا بالشيخ المنتظري الذي أنكر حق السيدة فاطمة الزهراء في (فدك) فأصابه ما أصابه من العزل والحصار والضغط، وفهمت ما كان يقصد، فقلت له: إن موضوع فدك بسيط جدا وهامشي ولا يستحق التوقف كثيرا، وهناك قضايا أساسية تمس جوهر العقيدة الشيعية مثل موضوع وجود الامام الثاني عشر، فقال: إذا تريد أن تعمل في الساحة عليك أن تتجنب الخوض في هكذا مواضيع. وقلت له: ليس مهما العمل أو عدم العمل، المهم التحقق من عقيدتنا ومعرفة الحق من الباطل. وتجرأت فسألته فيما إذا كان قد بحث موضوع الامام المهدي بصورة مفصلة اجتهادية؟ فاعترف بصراحة أذهلتني قائلا: لا. وكان من المفترض به كمجتهد ومرجع قبل أن يبحث في القضايا الفقهية الفرعية أن يبحث ويجتهد في أساس العقيدة الشيعية الامامية الاثني عشرية التي يبني عليها بقية الأمور، وسألته سؤالا آخر: هل قرأت حول الموضوع؟ قال: نعم. ولم تكن أمامنا فرصة للحوار، فقلت له: إذن سوف أبعث لك بدراستي لكي تلقي عليها نظرة وتعطيني رأيك حول الموضوع.
الشخص الثالث المهم الذي قررت مفاتحته في طهران، كان هو أستاذي السيد محمد تقي المدرسي، زعيم منظمة العمل الإسلامي ومؤسس الحوزة القائمية، والكاتب والباحث والمفكر الإسلامي الكبير، ولكنه كان يومها في نهاية عام 1990 منهمكا في متابعة ذيول اجتياح صدام للكويت، واستطعت أن آخذ ساعة واحدة من وقته، وأحدثه بالتفصيل عن خلاصة دراستي، وطلبت منه أن يشرح لي كيف يؤمن بوجود الامام المهدي، وأن يقدم لي أية أدلة يملكها ولم اطلع عليها حول الموضوع. فقال لي: بان هذا الموضوع من أمور الغيب. قلت له: نحن المسلمين نؤمن بالغيب كالملائكة والجن والجنة والنار لأنا نؤمن بالقرآن الكريم، ولا يمكن أن نقبل بأي أمر آخر لا يوجد في القرآن، ولم يثبت من خلال السنة ولا من أحاديث أهل البيت. وإذا كان مشايخ الشيعة يقولون إن الإيمان بوجود ولد للامام العسكري هو افتراض فلسفي لا دليل عليه، فكيف يمكن اعتبار ذلك من أمور الغيب؟
قال لي وهو ينظر الى ساعته: أرجو ان ترجئ الكتابة حول الموضوع حتى تبذل مزيدا من الوقت في البحث والتمحيص، ولا تستعجل، ثم اكتب بحثك وقدمه لي مكتوبا حتى أستطيع مناقشته. قلت له: عظيم.. وهذا ما أدركه أنا جيدا فان موضوعا مهما وخطيرا كموضوع وجود الامام الثاني عشر ليس أمرا سهلا يمكن التلاعب به، وأعدك بأني لن انشره الا بعد استكمال بحثي لسنة أخرى.
وهكذا وعدت عددا صغيرا آخر من أصدقائي واخواني. ولم أنس المحافظة على السرية المطلقة وحصر البحث حول الموضوع في أضيق دائرة من الاخوان المؤتمنين.
أكملت كتابة المسودة الأولى من الكتاب في نهاية عام 1992 وأرسلتها الى المدرسي كما وعدته، وقمت بكتابة رسائل الى حوالي ثلاثمائة الى أربعمائة عالم ومفكر من علماء الشيعة وقياداتهم أعرض عليهم خلاصة ما توصلت اليه من عدم صحة نظرية الإمامة وعدم وجود الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري)، واطلب منهم الاطلاع على مسودة كتابي ومناقشته، وتقديم ما لديهم من أدلة وبراهين قد لم اطلع عليها. أعلنت للجميع استعدادي للتراجع عن النتائج التي توصلت اليها فيما إذا حصلت على أي دليل مقنع. وقلت للكثير منهم بأني على استعداد لعمل حفلة وإحراق كتابي إذا ما اكتشفت أي دليل مخفي عني، وأيقنت بصحة النظرية الامامية وصحة وجود الإمام الثاني عشر.
ووجهت رسالة مفتوحة الى الحوزة العلمية في قم بعقد ندوة علمية لمناقشة هذا الموضوع، واستعدادي للمشاركة فيها. ولم أتلق بالطبع أي جواب.
وبعد فترة من المناقشة والحوار لمدة خمس سنوات قمت بطبع الكتاب سنة 1997 في لندن، فصدرت منذ ذلك الحين عشرات الكتب التي تحاول إثبات ولادة (الإمام محمد الحسن العسكري) ووجوده، وقد قمت بمراجعتها والرد على أهمها في كتاب خاص تحت عنوان (حوارات أحمد الكاتب مع العلماء والمراجع والمفكرين حول وجود الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري) وطبعته سنة 2007 وقلت في ذلك الكتاب بأن معظم الردود يؤكد ما وصلت اليه من أن موضوع (الإمام الثاني عشر) ما هو إلا افتراض فلسفي وهمي أكثر منه حقيقة تاريخية، وإن أغلب الردود تحاول إثبات وجوده عن طريق الاستدلال النظري أو ما يسمى بالدليل العقلي، وتفتقر الى الأدلة العلمية التاريخية[63].
فهذه تجربة عاناها وخاضها من تحرر من ربقة التقليد الأعمى والموروثات الدينية فقادته إلى معرفة الحقيقة، ليخلص إلى نظرية أهل السنة والجماعة الذين يرون أن نظام الحكم في الإسلام يقوم على ركنين: السلطة للأمة، والسيادة للشريعة. وإنّ العصمة من شروط النبوّة، والرسالة، وليست من شروط الإمامة، وإنّما يشترط فيها عدالة ظاهرة، فمتى أقام في الظاهر على موافقة الشريعة، كان أمره في الأمّة منتظماً، ومتى زاغ عن ذلك كانت الأمّة عيناً عليه في العدول به من خطئه إلى صواب، أو في العدول عنه إلى غيره[64].
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] وهذه الشروط (على خلاف بينهم) هي البلوغ والعقل والإيمان (شيعي إثنى عشري) والذكورة والإجتهاد والعدالة وطهارة المولد والحياة والأعلمية وغيرها.
([2]) الاختصاص، 268، 269، قرب الإسناد، 153، البصائر، 143، البحار، 23/ 2، 3، 30، 51، 49/ 267، إثبات الهداة، 1/ 138، 139،.
([3]) الاختصاص، 269، البحار، 23/ 92، إثبات الهداة، 1/ 139،.
([4]) البصائر، 143، علل الشرايع، 76، البحار، 23/ 21، 51، 24/ 217، إثبات الهداة، 1/ 120،.
([5]) الاختصاص، 269، البحار، 23/ 92، إثبات الهداة، 1/ 129، 139،.
([6]) علل الشرايع، 76، 77، 78، البصائر، 96، 143، 289، الاختصاص، 289، كمال الدين، 117، 118، 128، 129، غيبة النعماني،68، المحاسن،235، البحار،23/ 21، 24،39، 26/ 178، إثبات الهداة، 1/ 106، 108
([7]) انظر تفصيل هذه الفرق في، فرق الشيعة، 96، وما بعدها، الفصول المختارة، 261، وما بعدها، البحار، 37/ 20، وما بعدها 50/ 336،.
[8] انظر كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، انتشارات مهدوي، 43
[9] انظر مستند الشيعة للنراقي، طبعة مكتبة آية الله المرعشي 2/ 132، 517، 523
[10] انظر فرائد الأصول للأنصاري، مؤسسة النشر الإسلامي، تحقيق النوري 1/ 275
[12] للإستزادة راجع نظرية ولاية الفقيه وتداعياتها في الفكر السياسي الإيراني المعاصر لشفيق شقير
[13] الهداية، الأول، للگلپايگاني، 29
[14] للإستزادة راجع موسوعة الرشيد على النت
[16] عوائد الأيام، للنراقي، 536
[17] انظر جواهر الكلام 21/ 397
[19] مصباح الفقيه، لآقا رضا الهمداني، 14/ 289
[20] الحكومة الإسلامية، للخميني، 80
[21] أنظر نظرية ولاية الفقيه وتداعياتها في الفكر السياسي الإيراني المعاصر لشفيق شقير
[22] أنظر الثورة البائسة، لموسوى الموسوي
[24] الخميني والدولة الإسلامية، 59
[25] أنظر، حول نظرية ولاية الفقيه لعبدالخالق حسين
[26] الكافي، للكليني، 1/ 67 ، الوافي، للفيض الكاشاني، 1/ 286 ، وسائل الشيعة، للحر العاملي، 27/ 13، 106، 136 ، مستدرك الوسائل، للنوري الطبرسي، 17/ 302 ، الاحتجاج، للطبرسي، 2/ 106 ، بحار الأنوار، للمجلسي، 2/ 220، 101/ 261
[27] الكافي، للكليني، 7/ 412 ، من لا يحضره الفقيه، للصدوق، 3/ 2 ، تهذيب الأحكام، للطوسي، 6/ 219 ، الوافي، للفيض الكاشاني، 16/ 901 ،وسائل الشيعة، للحر العاملي، 27/ 13
[28] المحاسن، لأحمد بن محمد بن خالد البرقي، 1/ 1 ، كمال الدين وتمام النعمة، للصدوق، 484 ، وسائل الشيعة، للحر العاملي، 27/ 140 ، الفصول العشرة، للمفيد، 10 ، الغيبة، للطوسي، 291 ، الاحتجاج، للطبرسي، 2/ 283 ، الخرائج والجرائح، لقطب الدين الراوندي، 3/ 1114 ، بحار الأنوار، للمجلسي، 2/ 90، 53/ 181، 75/ 380
[29] الأمالي، للصدوق، 247 ، عيون أخبار الرضا ( ع ) - الشيخ الصدوق - ج 2/ 40 ، معاني الأخبار - الشيخ الصدوق 374 ، الوافي، للفيض الكاشاني، 1/ 146
[30] الكافي، للكليني، 1/ 34 ، الوافي، للفيض الكاشاني، 1/ 155 ، الأمالي، للصدوق، 116 ، ثواب الأعمال، للصدوق، 131
[31] الكافي، للكليني، 1/ 38 ، الوافي، للفيض الكاشاني، 1/ 148
[32] الكافي، للكليني، 1/ 46 ، الوافي، للفيض الكاشاني، 1/ 213 ، مستدرك الوسائل، للنوري الطبرسي، 13/ 124، 17/ 320 ، النوادر، لفضل الله الراوندي 156 ، بحار الأنوار، للمجلسي، 2/ 36، 110، 72/ 380
[33] تحف العقول عن آل الرسول ( ص )، لإبن شعبة الحراني، 238 ، الوافي، للفيض الكاشاني، 15/ 179 ، مستدرك الوسائل، للنوري الطبرسي، 17/ 316 ، بحار الأنوار، للمجلسي، 97/ 80
[34] مستدرك الوسائل، للنوري الطبرسي، 17/ 321 ، جامع أحاديث الشيعة، للبروجردي، 25/ 18
[35] الحدائق الناضرة، ليوسف البحراني، 23/ 239 ، رياض المسائل، لعلي الطباطبائي، 10/ 108 ، عوائد الأيام، للنراقي، 534 ، مستند الشيعة، للنراقي، 16/ 143
[36] عوائد الأيام، للنراقي، 532 ، نهج الفقاهة، لمحسن الحكيم، 299 ، كتاب البيع، للخميني، 2/ 651
[37] فقه الرضا، لإبن بابويه القمي، 338 ، بحار الأنوار، للمجلسي، 75/ 346 ، مستدرك سفينة البحار، لعلي النمازي الشاهرودي، 8/ 283
[38] الكافي، للكليني، 1/ 33 ، الوافي، للفيض الكاشاني، 1/ 143 ، مشكاة الأنوار، لعلي الطبرسي، 122 ، بحار الأنوار، للمجلسي، 67/ 287
[39] الكافي، للكليني، 5/ 209 ، تهذيب الأحكام، للطوسي، 7/ 69 ، الوافي، للفيض الكاشاني، 17/ 300 ، وسائل الشيعة، للحر العاملي، 17/ 363
[40] الكافي، للكليني، 7/ 66 ، الوافي، للفيض الكاشاني، 24/ 177 ، تهذيب الأحكام، للطوسي، 9/ 239 ، وسائل الشيعة، للحر العاملي، 17/ 362، 19/ 423 ، مسند الإمام الرضا ( ع )، لعزيز الله عطاردي، 2/ 408
[41] الكافي، للكليني، 7/ 67 ، تهذيب الأحكام، للطوسي، 9/ 240 ، وسائل الشيعة، للحر العاملي، 19/ 422 ، الوافي، للفيض الكاشاني، 24/ 178 ، هداية الأمة إلى أحكام الأئمة ( ع )، للحر العاملي، 8/ 301
[42] الاحتجاج، للطبرسي، 2/ 264 ، بحار الأنوار، للمجلسي، 2/ 89 ، جامع أحاديث الشيعة، للبروجردي، 1/ 315 ، تفسير الإمام العسكري ( ع )، للعسكري ( ع )، 302 ، التفسير الصافي، للفيض الكاشاني، 1/ 207
[43] بحار الأنوار، للمجلسي، 61/ 245، 67/ 139 ، مستدرك سفينة البحار، لعلي النمازي الشاهرودي، 7/ 356 ، العلم والحكمة في الكتاب والسنة، لمحمد الريشهري، 319 ، البيان في تفسير القرآن، للخوئي، 66
[44] منية المريد، للشهيد الثاني، 121 ، الجواهر السنية، للحر العاملي، 115 ، بحار الأنوار، للمجلسي، 2/ 25 ، مستدرك سفينة البحار، لعلي النمازي الشاهرودي، 7/ 282
[45] فقه الرضا، لعلي ابن بابويه القمي، 333 ، عوائد الأيام، للنراقي، 558
[46] أنظر رياح التغيير لإيران فى الذكرى الرابعة والثلاثين لاستبداد طغاتها لنبيل الحيدري
[47] ولايــة الفقيــه أم شــورى الفقهــاء ؟ نقــاط الضعــف .. وعوامــل القـــوة، الشيخ محمد كاظم الخاقاني
[48] صحيفة عكاظ، العدد 16301
[49] صحيفة الوسط البحرينية - العدد 1932 - الجمعة 21 ديسمبر 2007م الموافق 11 ذي الحجة 1428هـ
[50] http،/ / annabaa.org/ nba28/ faqeh.htm
[51] http،/ / www.fnoor.com/ main/ articles.aspx?article_no=4021
[52] http،/ / www.ahewar.org/ debat/ show.art.asp?aid=240811
[53] نظرية السلطة في الفقه الشيعي، 162
[54] شرح لمعة الاعتقاد للشيخ الفوزان، 264
[55] مناقب الشافعى للبيهقى، 1/ 4488
[56] فتح البارى، لإبن حجر العسقلاني، 13/ 8
[57] فقه الخلاف، 55، أنظر أيضاً ، 53، 54، 76
[59] تحرير الوسيلة، للخميني، 1/ 482
[60] منهاج السنة النبوية، لإبن تيمية، 1/ 115
[61] لقاءات الباب المفتوح، 421
[62] نقلاً عن كتاب الإنصاف في نقد كتاب فقه الخلاف تصرف كبير
[63] انظر http،/ / ahmadalkatib.blogspot.com/ 2010/ 07/ blog-post_1837.html
[64] أنظر أصول الدين، للبغدادي، 69