الكاتب : فيصل نور ..
حديث المنزلة (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)
وهو الحديث المتفق عليه بين الفريقين والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنت مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلا أنه لا نبي بعدي.
ويستدل الشيعة بهذا الحديث على أولوية علي رضي الله عنه بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أثبت النبي لعليٍّ جميع منازل هارون، ولم يستثن إلا النبوة فثبتت الخلافة لعلي لأنها من جملة منازل هارون.
من ردود العلماء:
1- هذا الحديث لا يصلح أن يكون دليلاً.. من وجوه: منها أن الاستغراق ممنوع؛ إذ من جملة منازل هارون كونه نبياً مع موسى، وعليّ ليس بنبي بالإتفاق، لا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا بعده، فلو كانت المنازل الثابتة لهارون – ما عدا النبوة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ثابتة لعلي لاقتضى أن يكون علي نبياً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن النبوة معه لم تستثنَ وهي من منازل هارون عليه السلام وإنما المستثنى النبوة بعده.
وأيضاً من جملة منازل هارون كونه أخًّا شقيقاً لموسى، وعلي ليس بأخ، والعام إذا تخصص بغير الاستثناء صارت دلالته ظنية، فليحمل الكلام على منزلة واحدة كما هو ظاهر التاء التي للوحدة، فتكون الإضافة للعهد وهو الأصل فيها، و"إلا" في الحديث بمعنى "لكن" كقولهم: فلان جواد إلا أنه جبان، أي لكنه. فرجعت القضية مهملة يراد منها بعض غير معين فيها وإنما نعينه من خارج، والمعين هو المنزلة المعهودة حين استخلف موسى هارون على بني إسرائيل، والدال على ذلك قوله تعالى: (اخلفني في قومي) ومنزلة عليّ هي استخلافه على المدينة في غزوة تبوك.
2- لو كان هذا من باب الفضائل لما وجد عليٌّ في نفسه وقال "أتجعلني مع النساء والأطفال والضعفة؟".
3- قد شبّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم (في الحديث الصحيح) أيضاً أبا بكر رضي الله عنه بإبراهيم وعيسى عليهما السلام وشبه عمر رضي الله عنه بنوح وموسى عليهما السلام كما أشارا عليه في أسارى بدر هذا بالفداء وهذا بالقتل ولا شك أن هذا أعظم من تشبيه علي بهارون ولم يوجب ذلك أن يكون بمنزلة أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام مطلقاً ولكن شابه في شدته في الله وهذا في لينه في الله وتشبيه الشيء بالشيء لمشابهته في بعض الوجوه كثيرة في الكتاب والسنة وكلام العرب.
4- قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" إنما ورد على سبب وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي رضي الله عنه (في غزوة تبوك في سنة تسع) لما استخلفه على المدينة فطعن بعض الناس وقالوا: إنما استخلفه لأنه يبغضه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من المدينة استخلف عليها رجلاً من أمته، فلما كان عام تبوك لم يأذن لأحد من المؤمنين القادرين على الغزو في التخلف عنها بلا عذر، ولم يتخلف بلا عذر إلا عاص لله ورسوله فكان استخلافه عليًّا رضي الله عنه فيها استخلافاً ضعيفاً، فطعن فيه المنافقون لهذا السبب فبين له صلى الله عليه وآله وسلم: أني لم أستخلفك لبغض لك عندي فإن موسى عليه السلام استخلف هارون عليه السلام وهو شريكه في الرسالة، أَمَا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى فتخلفني في المدينة كما خلف هارون أخاه موسى. ومعلوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان قد استخلف غيره قبله وكان أولئك منه بهذه المنزلة ولم يكن هذا من خصائص علي رضي الله عنه ولو كان هذا الاستخلاف أفضل من غيره لم يخف فيه عليه ولم يخرج إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي ويقول: تخلفني في النساء والذرية والصبيان.
5- الحديث المذكور لا يعني به استخلاف علي رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يعني به استخلافه على المدينة عند خروجه إلى تبوك كما أستخلف موسى هارون عند خروجه إلى الطور، وكيف يكون المراد به الخلافة بعد موته وقد مات هارون قبل موسى عليهما السلام؟!
6- كان صلى الله عليه وآله وسلم كلما سافر في غزوة أو عُمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة، فلما كان في غزوة تبوك لم يأذن لأحد استخلف عنها، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها، فلم يتخلف عنه إلا النساء والصبيان، أو من هو معذور لعجزه عن الخروج، أو من هو منافق، وتخلف الثلاثة الذين تِيبَ عليهم، ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم، كما كان يستخلف عليهم في كل مرة، بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة منه، لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحداً، كما كان يبقي في جميع مغازيه، فإنه كان بالمدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم من يستخلف، فكل استخلاف استخلفه في مغازيه، مثل استخلافه في غزوة بدر الكبرى والصغرى، وغزوة بني المصطلق، والغابة، وخيبر، وفتح مكة، وسائر مغازيه التي لم يكن فيها قتال، ومغازيه بضع عشرة غزوة، وقد استخلف فيها كلها إلا القليل، وقد استخلف في حجة الوداع وعمرتين قبل غزوة تبوك. وفي كل مرة يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك، فكان كل استخلاف قبل هذه يكون عليٌّ أفضل ممن استخلف عليه عليًّا. فلهذا خرج إليه عليٌّ رضي الله عنه يبكي، وقال: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟ وقيل: إن بعض المنافقين طعن فيه، وقال: إنما خلّفه لأنه يبغضه. فبيّن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني إنما استخلفتك لأمانتك عندي، وهذا الاستخلاف ليس بنقص ولا غضٍّ، فإن موسى استخلف هارون على قومه، فكيف يكون نقصاً وموسى لَيَفْعَله بهارون؟ فطيَّب بذلك قلب عليّ، وبيّن أن جنس الاستخلاف يقتضي كرامة المستخلف وإمامته، لا يقتضي إهانته ولا تخوينه، وذلك لأن المستخلَف يغيب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد خرج معه جميع الصحابة.
والملوك – وغيرهم – إذا خرجوا في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعهم به، ومعاونته لهم، ويحتاجون إلى مشاورته والانتفاع برأيه بلسانه، ويده وسيفه.
والمتخلف إذا لم يكن له في المدينة سياسة كثيرة لا يحتاج إلى هذا منه فظن من ظن أن هذا غضاضة من عليٍّ، ونقص منه، وخفض من منزلته، حيث لم يأخذه معه في المواضع المهمة، التي تحتاج إلى سعي واجتهاد، بل تركه في المواضع التي لا تحتاج إلى كثير سعي واجتهاد فكان قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبيّناً أن جنس الاستخلاف ليس نقصاً ولا غضًّا، إذ لو كان نقصاً أو غضاً لما فعله موسى بهارون، ولم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون، لأن العسكر كان مع هارون، وإنما ذهب موسى وحده.
وأما استخلاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجميع العسكر كان معه، ولم يُخَلَّف بالمدينة غير النساء والصبيان إلا معذورٌ أو عاصٍ.
ومعلوم من السيرة أن هذا الاستخلاف لم يكن خاصاً بعلي، فقد استخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة غيره عندما كان يخرج غازياً أوحاجاً أومعتمراً.
فقد استخلف في غزوة بدر: عبد الله ابن أم مكتوم.
واستخلف في غزوة بني سليم: سباع بن عُرفطة الغفاري، أوابن أم مكتوم على اختلاف في ذلك.
واستخلف في غزوة السويق: بشير بن عبد المنذر.
واستعمل على المدينة في غزوة بني المصطلق: أبا ذر الغفاري.
وفي غزوة الحديبية: نُمَيْلَةَ بن عبد الله الليثي كما استعمله أيضاً في غزوة خيبر.
وفي عمرة القضاء استعمل: عويف بن الأضبط الديلي.
وفي فتح مكة: كلثوم بن حصين بن عتبة الغفاري.
وفي حجة الوداع: أبا دجانة الساعدي.
ذكر هذا ابن هشام في مواطن متفرقه من السيرة وهذا مما يدل على عدم اختصاص علي بالاستخلاف، وأنه قد شاركه في ذلك جمع من الصحابة، وبالتالي تبطل مزاعم الرافضة التي يعلقونها على هذا الحديث، كدعوى الوصية لعلي وأنه أفضل الصحابة.
7- وقول القائل: "هذا بمنزلة هذا، وهذا مثل هذا» هو كتشبيه الشيء بالشيء. وتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دلَّ عليه السياق، لا يقتضي المساواة في كل شيء. ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الأسارى لمّا استشار أبا بكر، وأشار بالفداء، واستشار عمر، فأشار بالقتل. قال: "سأخبركم عن صاحبيكم. مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [سورة إبراهيم: 36]، ومثل عيسى إذ قـال: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة المائدة: 118]. ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: (رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [سورة نوح: 26]، ومثل موسى إذ قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [سورة يونس: 88]. فقوله لهذا: مثلك كمثل إبراهيم وعيسى، ولهذا: مثل نوح وموسى – أعظم من قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى؛ فإن نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى أعظم من هارون، وقد جعل هذين مثلهم، ولم يرد أنهما مثلهم في كل شيء، لكن فيما دلّ عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله. وكذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دلّ عليه السياق، وهو في استخلافه في مغيبه، كما استخلف موسى هارون. وهذا الاستخلاف ليس من خصائص عليّ، بل ولا هو مثل استخلافاته، فضلاً عن أن يكون أفضل منها.
قد استخلف مَنْ عليّ أفضل منه في كثير من الغزوات، ولم تكن تلك الاستخلافات توجب تقديم المستخلف عَلَى علي إذا قعد معه، فكيف يكون موجباً لتفضيله على عليّ؟ بل قد استخلف على المدينة غير واحد، وأولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى من جنس استخلاف عليّ، بل كان ذلك استخلاف يكون عَلَى أكثر وأفضل ممن استخلف عليه عام تبوك، استدعت الحاجة إلى الاستخلاف أكثر، فإنه كان يخاف من الأعداء على المدينة. فأما عام تبوك فإنه كان قد أسلمت العرب بالحجاز، وفُتحت مكة، وقوي الإسلام وعزّ. ولهذا أمر الله نبيّه أن يغزو أهل الكتاب بالشام، ولم تكن المدينة تحتاج إلى من يقاتل بها العدو. ولهذا لم يَدَع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند عليّ أحداً من المقاتلة، كما كان يَدَع بها في الغزوات، بل أخذ المقاتلة كلهم معه.
وتخصيصه لعليّ بالذكر هنا هو مفهوم اللقب، وهو نوعان: لقب هو جنس، ولقب يجري مجرى العلم، مثل زيد، وأنت. وهذا المفهوم أضعف المفاهيم، ولهذا كان جماهير أهل الأصول والفقه على أنه لا يُحتج به. فإذا قال: محمد رسول الله، لم يكن هذا نفياً للرسالة عن غيره، لكن إذا كان في سياق الكلام ما يقتضي التخصيص، فإنه يحتج به على الصحيح. كقوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) [سورة الأنبياء: 79]، وقوله: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) [سورة المطففين: 15].
وأما إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه، فلا يُحتج به باتفاق الناس فهذا من ذلك؛ فإنه إنما خصَّ عليًّا بالذكر لأنه خرج إليه يبكي ويشتكي تخليفه مع النساء والصبيان. ومن استخلفه سوى عليّ، لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصًا، لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام.
والتخصيص بالذكر إذا كان لسبب يقتضي ذاك لم يقتضِ الاختصاص بالحكم، فليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى، كما أنه لما قال للمضروب الذي نَهَى عن لعنه: «دعه؛ فإنه يحب الله ورسوله» لم يكن هذا دليلاً على أن غيره لا يحب الله ورسوله، بل ذكر ذلك لأجل الحاجة إليه لينهي بذلك عن لعنه.
ولما استأذنه عمر رضي الله عنه في قتل حاطب بن أبي بلتعة، قال: «دعه؛ فإنه قد شهد بدرًا» ولم يدل هذا على أن غيره لم يشهد بدراً، بل ذكر المقتضى لمغفرة ذنبه.
وكذلك لما شهد للعشرة بالجنة، لم يقتض أن غيرهم لا يدخل الجنة، لكن ذكر ذلك لسبب اقتضاه.
وكذلك لما قال للحسن وأسامة: «اللهم! إني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما» لا يقتضي أنه لا يحب غيرهما، بل كان يحب غيرهما أعظم من محبتهما.
وكذلك لما قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» لم ينفي أن من سواهم يدخلها. وكذلك لما شبّه أبا بكر بإبراهيم وعيسى، لم يمنع ذلك أن يكون من أمته وأصحابه من يشبه إبراهيم وعيسى. وكذلك لمّا شبّه عمر بنوح وموسى، لم يمتنع أن يكون في أمته من يشبه نوحاً وموسى. فإن قيل: إن هذين أفضل من يشبههم من أمته. قيل: الاختصاص بالكمال لا يمنع بالمشاركة في أصل التشبيه.
وكذلك لما قال عن عروة بن مسعود: «إنه مثل صاحب ياسين».
وكذلك لما قال للأشعريين: «هم مني وأنا منهم» لم يختص ذلك بهم، بل قال لعليّ: «أنت مني وأنا منك» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» وذلك لا يختص بزيد، بل أسامة أخوهم ومولاهم.
وبالجملة الأمثال والتشبيهات كثيرة جداً، وهي لا توجب التماثل من كل وجه، بل فيما سيق الكلام له، ولا تقتضي اختصاص المشبَّه بالتشبيه، بل يمكن أن يشاركه غيره له في ذلك.
قال الله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ) [سورة البقرة: 261].
وقال تعالى: }وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ{ [سورة يس: 13].
وقال: (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ) [سورة آل عمران: 117].
وقد قيل: إن في القرآن اثنين وأربعين مثلاً.
وقول القائل: إنه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل؛ فإن قوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟» دليل على أن يسترضيه بذلك ويطيِّب قلبه لِمَا توهم من وهن الاستخلاف ينقص درجته، فقال هذا على سبيل الجبر له.
وقوله: «بمنزلة هارون من موسى» أي مثل منزلة هارون، فإن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره، وإنما يكون له ما يشابهها، فصار هذا كقوله: هذا مثل هذا، وقوله عن أبي بكر: مثله مثل إبراهيم وعيسى، وعمر: مثل نوح وموسى.
ومما يبين ذلك أن هذا كان عام تبوك، ثم بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر أميراً على الموسم، وأردفه بعليّ، فقال [عليّ]: أمير أم مأمور؟ [فقال: بل مأمور]، فكان أبو بكر أميراً عليه، وعليّ معه كالمأمور مع أميره: يصلّي خلفه، ويطيع أمره وينادي خلفه مع الناس بالموسم: أَلاَ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان. وإنما أردفه به لينبذ العهد إلى العرب، فإنه كان من عادتهم أن لا يعقد العقود وينبذها إلا السيد المطاع، أو رجل من أهل بيته. فلم يكونوا يقبلون نقض العهود إلا من رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومما يبيّن ذلك أنه لو أراد أن يكون خليفة على أمته بعده، لم يكن هذا خطاباً بينهما يناجيه به، ولا كان أخَّره حتى يخرج إليه عليّ ويشتكي، بل كان هذا من الحكم الذي يجب بيانه وتبليغه للناس كلهم، بلفظ يبين المقصود.
8- هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخاطب عليًّا رضي الله عنه بهذا الخطاب إلا ذلك اليوم في غزوة تبوك، فلو كان عليّ قد عرف أنه المستخلَف من بعده لكان مطمئن القلب أنه مثل هارون بعده وفي حياته، ولم يخرج إليه يبكي، ولم يقل له: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟ ولو كان عليّ بمنزلة هارون مطلقًا لم يستخلف عليه أحدًا. وقد كان يستخلف عَلَى المدينة غيره وهو فيها، كما استخلف على المدينة عام خيبر غير عليّ، وكان عليّ بها أرمد، حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراية حين قدم، وكان قد أعطى الراية رجلاً فقال: «لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله».
9- أما القول: «لأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة، فبعد موته وطول مدة الغيبة أَوْلى بأن يكون خليفته».
فالجواب: أنه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير عليّ استخلافاً أعظم من استخلاف عليّ، واستخلف أولئك عَلَى أفضل من الذين استخلف عليهم عليًّا، وقد استخلف بعد تبوك على المدينة غير عليّ في حجة الوداع، فليس جعل عليّ هو الخليفة بعده لكونه استخلفه على المدينة بأَوْلى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه، وأعظم مما استخلفه، وآخر الاستخلاف كان عَلَى المدينة كان عام حجة الوداع، وكان عليّ باليمن، وشهد معه الموسم، لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير عليّ. فإن كان الأصل بقاء الاستخلاف، فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أَوْلى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك.
10- الاستخلافات على المدينة ليست من خصائصه، ولا تدل على الأفضلية، ولا على الإمامة، بل قد استخلف عدداً غيره. ولكن هؤلاء يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين عليّ وغيره. خاصة بعليّ، وإن كان غيره أكمل منه فيها، كما فعلوا في النصوص والوقائع. وهكذا فعلت النصارى: جعلوا ما أتى به المسيح من الآيات دالاً على شيء يختص به من الحلول والاتحاد، وقد شاركه غيره من الأنبياء فيما أتى به، وكان ما أتى به موسى من الآيات أعظم مما جاء به المسيح، فليس هناك سبب يوجب اختصاص المسيح دون إبراهيم وعيسى، لا بحلول ولا اتحاد، بل إن كان ذلك كله ممتنعاً، فلا ريب أنه كله ممتنع في الجميع، وإن فُسِّر ذلك بأمر ممكن، كحصول معرفة الله والإيمان به، والأنوار الحاصلة بالإيمان به ونحو ذلك، فهذا قدر مشترك وأمر ممكن. وهكذا الأمر مع الشيعة: يجعلون الأمور المشتركة بين عليّ وغيره، التي تعمّه وغيره، مختصة به، حتى رتّبوا عليه ما يختص به من العصمة والإمامة والأفضلية. وهذا كله منتفٍ. فمن عرف سيرة الرسول، وأحوال الصحابة، ومعاني القرآن والحديث: علم أنه ليس هناك اختصاص بما يوجب أفضليته ولا إمامته، بل فضائله مشتركة، وفيها من الفائدة إثبات إيمان عليّ وولايته، والرد على النواصب الذين يسبّونه أو يفسّقونه أو يكفرونه ويقولون فيه من جنس ما يقوله الشيعة في الثلاثة.
ففي فضائل عليّ الثابتة ردٌّ على النواصب، كما أن في فضائل الثلاثة ردًّا على الشيعة. وعثمان رضي الله عنه تقدح فيه الشيعة والخوارج، ولكن شيعته يعتقدون إمامته، ويقدحون في إمامة عليّ. وهم في بدعتهم خير من شيعة عليّ الذين يقدحون في غيره. والزيدية الذين يتولون أبا بكر وعمر ومضطربون فيه.
11- الاستخلاف في الحياة نوع نيابة، لا بد منه لكل ولي أمر، وليس كل مَنْ يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمة يصلح أن يُستخلف بعد الموت؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلف في حياته غير واحد، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته، وذلك كبشير بن عبد المنذر وغيره. وأيضاً فإنه مطالب في حياته بما يجب عليه من القيام بحقوق الناس، كما يُطالَب بذلك ولاة الأمور. وأما بعد موته فلا يطالب بشيء، لأنه قد بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، نصح الأمة، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربّه. ففي حياته يجب عليه جهاد الأعداء، وقسم الفيء، وإقامة الحدود، واستعمال العمّال، وغير ذلك مما يجب على ولاة الأمور بعده، وبعد موته لا يجب عليه شيء من ذلك.
فليس الاستخلاف في الحياة كالاستخلاف بعد الموت. والإنسان إذا استخلف أحداً في حياته عَلَى أولاده وما يأمر به من البرّ، كان المستخلف وكيلاً محضاً يفعل ما أَمَر به الموكِّل وإن استخلف أحداً على أولاده بعد موته، كان وليًّا مستقلاً يعمل بحسب المصلحة، كما أمر الله ورسوله، ولم يكن وكيلاً للميّت.
وهكذا أولو الأمر إذا استخلف أحدهم شخصاً في حياته، فإنه يفعل ما يأمره به في القضايا المعيّنة.
وأما إذا استخلفه بعد موته، فإنه يتصرف بولايته كما أمر الله ورسوله، فإن هذا التصرف مضاف إليه لا إلى الميت، بخلاف ما فعله في الحياة بأمر مستخلِفه، فإنه يُضاف إلى من استخلَفه لا إليه. فأين هذا من هذا!؟ ولم يقل أحد من العقلاء: إن من استخلَف شخصاً على بعض الأمور. وانقضى ذلك الاستخلاف: إنه يكون خليفة بعد موته على شيء.
12- لم يخف على النبي أن يوشع كان الخليفة بعد موسى وليس هارون. فلو كان مراده الإمامة لقال (كمنزلة يوشع من موسى) ولم يقل (بمنزلة هارون من موسى. مما يدل على أن المنزلة منزلة الأخوة لا الإمامة كما بين موسى وهارون. وليس الإمامة.
13- أن استخلاف هارون يختلف عن استخلاف علي. فإن العسكر كان مع هارون وإنما ذهب موسى لوحده. أما استخلاف علي فكان على النساء والصبيان في المدينة وكان العسكر كله مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
14- أن هارون ولي أمر بني إسرائيل في حياة موسى فقط. وقياس علي على هارون هنا يبطله مبايعة علي لأبي بكر وعمر وعثمان. فالله وعد أهل البيت بالاستخلاف كما يزعم الشيعة في تفسير قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)[النور: 55]. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعد عليا بالاستخلاف كما في هذا الحديث: فيلزم الطعن في كلام الله ورسوله لأن كلا من الآية والحديث لم يتحققا.
15- أن عليا لم يستعمل شيئا من هذه النصوص المزعومة كدليل على وجوب خلافته هو. فإن كان لعجز فيكون لا يستحق الإمارة. وإن كان يقدر ولم يفعل فهو خائن والخائن معزول عن الإمارة. وإن كان لم يعلم بالنص فهو لا يعلم ما كان وما يكون كما يدعي الشيعة. وحاشاه مما ينسبه الشيعة إليه من التناقضات.
16- النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبق علي خليفة على اهل المدينة كاملة، بل استخلفة على أهل بيته خاصة، اما سائر المدينة من النساء والاطفال واصحاب الاعذار والمنافقون، فقد ترك عليهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه وهذا الذي ذكرة اهل السير كأبن كثير وابن جرير وغيرهم.
17- كيف يمكن أن نفهم ان هذا الترك منقبة لعلي رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وآله وسل؟ اذا كان هذا منقبة لعلي كيف نفسر خروج علي باكياً خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ لو كان كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني الخلافة كما يدعي الرافضة؟ لماذا يبكي وقد جعله خليفة؟
18- هذا الحديث لا يوجب له فضلاً على من سواه، ولا استحقاق الإمامة بعده، لأن هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام، وإنما ولي الأمر بعد موسى يوشع بن نون فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه، كما ولي الأمر بعد رسول الله صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة، وإذا لم يكن على نبياً كما كان هارون نبياً، ولا كان هارون خليفة بعد موت موسى على بني إسرائيل فصح أن كونه من رسول الله بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط.
19- إن كان هذا النص صريحا في الإمارة. فهناك ما هو أصرح منه وأولى وهو تأمير النبي لأسامة بن زيد. فلماذا لا نقول إنه هو الإمام بعد النبي بدليل أن النبي أمره. فلماذا لم يؤمر علي بن أبي طالب بدلا من أسامة بن زيد؟
20- أن نقول على أحد القولين: إنه استخلف أبا بكر بعد موته. وإذا قالوا الشيعة: بل استخلف عليًّا. قيل: الراوندية من جنسكم قالوا: استخلف العبّاس، وكل من كان له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالّة على استخلاف أحدٍ بعد موته إنما تدل على استخلاف أبي بكر، ليس فيها شيء يدل على استخلاف عليّ ولا العباس، بل كلها تدل على أنه لم يستخلف واحداً منهما. فيقال حينئذ: إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلف أحداً فلم يستخلف إلا أبا بكر، وإن لم يستخلف أحداً فلا هذا ولا هذا. فعلى تقدير كون الاستخلاف واجباً على الرسول، لم يستخلف إلا أبا بكر، فإن جميع أهل العلم بالحديث والسيرة متفقون على أن الأحاديث الثابتة لا تدل على استخلاف غير أبي بكر، وإنما يدل ما يدل منها على استخلاف أبي بكر. وهذا معلوم بالاضطرار عند العالم بالأحاديث الثابتة.
21- الشيعة لا يقولون بالقياس، وهنا احتجاج بالقياس، حيث قاسوا الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب. فالرسول في حياته شاهد على الأمة، مأمور بسياستها بنفسه أو نائبه، وبعد موته انقطع عنهم التكليف. كما قال المسيح: (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ) [سورة المائدة: 117] الآية، لم يقل: كان خليفتي الشهيد عليهم. وهذا دليل على أن المسيح لم يستخلف، فدل على أن الأنبياء لا يجب عليهم الاستخلاف بعد الموت. وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "فأقول كما قال العبد الصالح: (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ)[سورة المائدة: 117]وقد قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)[سورة آل عمران: 144] فالرسول بموته انقطع عنهم التكليف، وهو لو استخلف خليفة في حياته ثم يجب أن يكون معصومًا، بل كان يولّي الرجل ولايةً، ثم يتبين كذبه فيعزله، كما ولَّى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو لو استخلف رجلاً لم يجب أن يكون معصوماً، وليس هو بعد موته شهيداً عليه، ولا مكلَّفاً بردّه عما يفعله، بخلاف الاستخلاف في الحياة.
22- الاستخلاف في الحياة واجبٌ على كل وليّ أمر؛ فإن كل ولي أمر - رسولاً كان أو إماماً - عليه أن يستخلف فيما غاب عنه من الأمور، فلا بد له من إقامة الأمر: إما بنفسه، وإما بنائبه. فما شهده من الأمر أمكنه أن يقيمه بنفسه، وأما ما غاب عنه فلا يمكنه إقامته إلا بخليفة يستخلفه عليه، فيولّي عَلَى مَنْ غاب عنه مِن رعيته مَنْ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويأخذ منهم الحقوق، ويقيم فيهم الحدود، ويعدل بينهم في الأحكام، كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه، فيولِّي الأمراء على السرايا: يصلّون بهم، ويجاهدون بهم، ويسوسونهم، ويؤمِّر أمراء على الأمصار، كما أمّر عتاب بن أسيد على مكة، وأمّر خالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد العاص وأبا سفيان بن حرب ومعاذاً وأبا موسى على قرى عُرينة وعلى نجران وعلى اليمن، وكما كان يستعمل عمالاً على الصدقة، فيقبضونها ممن تجب عليه، ويعطونها لمن تحلّ له، كما استعمل غير واحد.وكان يستخلف في إقامة الحدود، كما قال لأنيس: "يا أُنَيْس، اغد على امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها"فغدا عليها فاعترفت فرجمها. وكان يستخلف على الحج، كما استخلف أبا بكر على إقامة الحج عام تسع بعد غزوة تبوك، وكان عليّ من جملة رعية أبي بكر: يصلّي خلفه، ويأتمر بأمره، وذلك بعد غزوة تبوك. وكما استخلف على المدينة مراتٍ كثيرة، فإنه كان كلما خرج في غزاة استخلف. ولما حج واعتمر استخلف. فاستخلف في غزوة بدر، وبني المصطلق، وغزوة خيبر، وغزوة الفتح، واستخلف في غزوة الحديبية، وفي غزوة القضاء، وحجة الوداع، وغير ذلك.
23- وإذا كان الاستخلاف في الحياة واجباً على متولّي الأمر وإن لم يكن نبياً، مع أنه لا يجب عليه الاستخلاف بعد موته، لكون الاستخلاف في الحياة أمراً ضروريًّا لا يؤدَّى الواجب إلا به، بخلاف الاستخلاف بعد الموت، فإنه قد بلَّغ الأمة، وهو الذي يجب عليهم طاعته بعد موته، فيمكنهم أن يعينوا من يؤمِّرونه عليهم، كما يمكن ذلك في كل فروض الكفاية التي تحتاج إلى واحد معيّن - عُلم أن لا يلزم من وجوب الاستخلاف في الحياة وجوبه بعد الموت.
24- أن الاستخلاف في الحياة واجبٌ في أصناف الولايات، كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستخلف على من غاب عنهم من يقيم فيهم الواجب، ويستخلف في الحج، وفي قبض الصدقات، وحفظ مال الفيء، وفي إقامة الحدود، وفي الغزو وغير ذلك. ومعلوم أن هذا الاستخلاف لا يجب بعد الموت باتفاق العقلاء، بل ولا يمكن، فإنه لا يمكن أن يعيِّن للأمة بعد موته من يتولّى كل أمر جزئي، فإنهم يحتاجون إلى واحدٍ بعد واحد، وتعيين ذلك متعذر، ولأنه لو عيَّن واحداً فقد يختلف حاله ويجب عزله، فقد كان يولّي في حياته من اشتكى إليه فيعزله، كما عزل الوليد بن عقبة، وعزل سعد بن عبادة عام الفتح وولَّى ابنه قيساً، وعزل إماماً كان يصلِّي بقوم لما بصق في القبلة، وولَّى مرة رجلاً فلم يقيم بالواجب، فقال: "أعجزتم إذا ولّيت من لا يقوم بأمري أن تولّوا رجلاً يقوم بأمري"فقد فوّض إليهم عزل من لا يقوم بالواجب من ولاته، فكيف لا يفوض إليهم ابتداءً تولية من يقوم بالواجب؟! وإذا كان في حياته من يولّيه ولا يقوم بالواجب فيعزله، أويأمر بعزله، كان لو ولّى واحداً بعد موته يمكن فيه أن لا يقوم بالواجب، وحينئذ فيحتاج إلى عزله، فإذا ولّته الأمة وعزلته، كان خيرًا لهم من أن يعزلوا من ولاّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا مما يتبين به حكمة ترك الاستخلاف، وعلى هذا فنقول في: أن ترك الاستخلاف بعد مماته كان أَوْلى من الاستخلاف، كما اختاره الله لنبيه، فإنه لا يختار له إلا أفضل الأمور، وذلك؛ لأنه: إما أن يُقال: يجب أن لا يستخلف في حياته من ليس بمعصوم، وكان يصدر من بعض نوّابه أمور منكرة فينكرها عليهم، ويعزل من يعزل منهم. كما استعمل خالد بن الوليد على قتال بني جذيمة فقتلهم، فَودَاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنصف دياتهم، وأرسل عليّ بن أبي طالب فضمن لهم حتى ميلغة الكلب، ورفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه إلى السماء وقال: "اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد". واختصم خالد وعبد الرحمن بن عوف حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصفيه" ولكن مع هذا لم يعزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالدًا. واستعمل الوليد بن عقبة على صدقات قومٍ، فرجع فأخبره أن القوم امتنعوا وحاربوا، فأراد غزوهم، فأنزل الله تعالى: (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ)[سورة الحجرات: 6]. وولّى سعد بن عبادة يوم الفتح، فلما بلغه أن سعداً قال: اليوم يوم الملحمة .. اليوم تستباح الحرمة عزله، وولى ابنه قيساً، وأرسل بعمامته علامةً على عزله، ليعلم سعد أن ذلك أمرٌ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكان يُشْتَكى إليه بعض نوابه فيأمره بما أمر الله به، كما اشتكى أهل قباء معاذًا لتطويله الصلاة بهم، لما قرأ البقرة في صلاة العشاء فقال: "أفتَّان أنت يا معاذ؟ اقرأ سبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، ونحوها". وفي الصحيح أن رجلاً قال له: إني أتخلّف عن صلاة الفجر مما يطوِّل بنا فلان، فقال: "يا أيها الناس! إذا أمَّ أحدكم فليخفف؛ فإن من ورائه الضعيف والكبير وذا الحاجة، وإذا صلّى لنفسه فليطوّل ما شاء". ورأى إماماً قد بصق في قبلة المسجد، فعزله عن الإمامة، وقال: "إنك آذيت الله ورسوله".
وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء أرسل إليه يسأله عنه. فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته يعلّم خلفاءه ما جهلوا، ويقوِّمهم إذا زاغوا، ويعزلهم إذا لم يستقيموا. ولم يكونوا مع ذلك معصومين. فعُلم أنه لم يكن يجب عليه أن يولّي المعصوم. وأيضاً فإن هذا تكليف ما لا يمكن؛ فإن الله لم يخلق أحداً معصوماً غير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فلو كُلِّف أن يستخلف معصوماً لكُلِّف ما لا يقدر عليه، وفات مقصود الولايات، وفسدت أحوال الناس في الدين والدنيا.
وإذا عُلم أنه كان يجوز - بل يجب - أن يستخلف في حياته من ليس بمعصوم، فلواستخلف بعد موته كما استخلف في حياته، لاستخلف أيضاً غير معصوم، وكان لا يمكنه أن يعلّمه ويقوّمه كما كان يفعل في حياته، فكان أن لا يستخلف خيرًا من أن يستخلف. والأمة قد بلغها أمر الله ونهيه، وعلموا ما أمر الله به ونهى عنه، فهم يستخلفون من يقوم بأمر الله ورسوله، ويعاونونه على إتمامهم القيام بذلك، إذا كان الواحد لا يمكنه القيام بذلك، فما فاته من العلم بيّنه له من يعلمه، وما احتاج إليه من القدرة عاونه عليه من يمكنه الإعانة، وما خرج فيه عن الصواب أعادوه إليه بحسب الإمكان بقولهم وعملهم، وليس على الرسول ما حُمِّلوه، كما أنهم ليس عليهم ما حُمِّل. فعُلم أن ترك الاستخلاف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الموت أكمل في حق الرسول من الاستخلاف، وأن من قاس وجوب الاستخلاف بعد الممات على وجوبه في الحياة كان من أجهل الناس. وإذا عَلٍمَ الرسول أن الواحد مِنَ الأُمَّة هُوَ أَحَقُّ بِالْخِلاَفَةِ، كما كان يعلم أن أبا بكر هو أحق بالخلافة من غيره، كان في دلالته للأمة على أنه أحق، مع علمه بأنهم يولُّونه، ما يغنيه عن استخلافه، لتكون الأمة هي القائمة بالواجب، ويكون ثوابها على ذلك أعظم من حصول مقصود الرسول. وأما أبوبكر فلما علم أنه ليس في الأمة مثل عمر، وخاف أن لا يولُّوه إذا لم يستخلفه لشدته، فولاّه هو- كان ذلك هوالمصلحة للأمة. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عَلِمَ أن الأمة يولُّون أبا بكر، فاستغنى بذلك عنْ توليَتِه، مَع دلالته لهم عَلَى أنه أحق الأمة بالتولية. وأبوبكر لم يكن يعلم أن الأمة يولُّون عمر إذا لم يستخلفه أبوبكر. فكان ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو اللائق به لفضل علمه، وما فعله صدِّيق الأمة هواللائق به إذ لم يعلم ما علمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
25- القول أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعزله عن المدينة باطل؛ فإنه لمّا رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم انعزل عليٌّ عند رجوعه، كما كان غيره ينعزل إذا رجع. وقد أرسله بعد هذا إلى اليمن، حتى وافاه الموسم في حجة الوداع، واستخف عَلَى المدينة في حجة الوداع غيره. أفترى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها مقيماً وعليّ باليمن، وهو خليفة بالمدينة؟! ولا ريب أن كلام هؤلاء كلام جاهل بأحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كأنهم ظنّوا أن عليًّا ما زال خليفة عَلَى المدينة حتى مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يعلموا أن عليًّا بعد ذلك أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة تسع مع أبي بكر لنبذ العهود، وأمَّر عليه أبا بكر.
ثم عند رجوعه مع أبي بكر أرسله إلى اليمن، كما أرسل معاذًا وأبا موسى. ثم لما حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع استخلف عَلَى المدينة غير عليٍّ، ووافاه عليّ بمكة، ونحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة بدنة، نحر بيده ثُلُثيها، ونحر علي ثلثها. وهذا كله معلوم عند أهل العلم، متفق عليه بينهم، وتواترت به الأخبار، كأنك تراه بعينك. ومن لم يكن له عناية بأحوال الرسول لم يكن له أن يتكلم في هذه المسائل الأصولية.
26- الخليفة لا يكون خليفة إلا مع مغيب المستخلف أو موته. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان بالمدينة امتنع أن يكون له خليفة فيها، كما أن سائر من استخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رجع انقضت خلافته. وكذلك سائر ولاة الأمور: إذا استخلف أحدهم على مصره في مغيبه بطل استخلافه ذلك إذا حضر المستخلِف. ولهذا لا يصلح أن يُقال: إن الله يستخلف أحداً عنه، فإنه حيٌّ قيوم شهيد مدبّر لعباده، منزّه عن الموت والنوم والغَيْبة. ولهذا لما قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله. قال: لست خليفة الله، بل خليفة رسول الله، وحسبي ذلك. والله تعالى يوصف بأنه يخلف العبد، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم! أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل". وقال في حديث الدجَّال: "والله خليفتي على كل مسلم". وكل من وصفه الله بالخلافة في القرآن فهو خليفة عن مخلوق كان فيه. كقوله: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم)[سورة يونس: 14]، (وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)[سورة الأعراف: 69]، (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) [سورة النور: 55]. وبذلك قوله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) [سورة البقرة: 3]، خليفة عن خلقٍ كان في الأرض قبل ذلك، كما ذكر المفسرون وغيرهم. وأما ما يظنه طائفة من الاتحادية وغيرهم أن الإنسان خليفة الله، فهذا جهل وضلال.