الكاتب : فيصل نور ..
رزية الخميس
روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي البيت رجال فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قوموا. قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم).[1]
وفي رواية مسلم أن القائل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد غلبه الوجع... إلخ هو عمر.[2]
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً. فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي نزاع، فقالوا: ما شأنه؟ أَهَجَر، اسْتَفْهِمُوه، فذهبوا يردون عليه، فقال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة، أو قال: فنسيتها).[3]
وفي رواية عند الحاكم في المستدرك: عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله ائتني بدواة وكتف اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا ثم ولأنا قفاه ثم اقبل علينا فقال يأبى الله والمؤمنون الا أبا بكر.[4]
وعند أبي يعلى من غير لفظة (هجر) ولا (وجع) من حديث ابن عباس: (اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال إئتوني أكتب لكم كتابا لاتضلون بعد فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع قال دعوني فما أنا فيه خير مما تسألون عنه)[5]
فقالوا: أن اختلاف الصحابة هذا هو الذي منع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كتابة الكتاب، وبالتالي حرم الأمة من العصمة من الضلالة، واستدل على ذلك بقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب). أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن ينص على خلافة علي رضي الله عنه. أن عمر هو الذي عارض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (إنه يهجر)، ثم قال: (عندكم القرآن)، (حسبنا كتاب الله). وأن تعليل أهل السنة بأن عمر قال ذلك شفقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقبله بسطاء العقول فضلاً عن العلماء.
أن الأكثرية الساحقة من الصحابة كانت على قول عمر ذلك، ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدم جدوى كتابة الكتاب، لأنه علم بأنهم لن يمتثلوه بعد موته.
أن الصحابة في هذه الحادثة تعدوا حدود رفع الأصوات إلى رميه صلى الله عليه وآله وسلم بالهجر والهذيان.
من ردود العلماء على هذه الشبهة:
1- لابد لنا أن نسأل أنفسنا أولاً: كيف كانت حالة النبي صلى الله عليه وسلم الصحية في تلك الفترة؟ وما سبب خلاف الصحابة عنده؟
إن تلك الحادثة حدثت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام، وهوعلى فراشه، وكان يوعك وعكاً شديداً من شدة الألم، بل كان صلى الله عليه وسلم من قسوة الألم يغمى عليه تارة ويفيق تارة أخرى، وقال للصحابة حينها: (ائتوني اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً) فاختلف الصحابة فمنهم من أراد أن لا يجهد النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، وظن أن الأمر لم يكن بحتم واجب إنما كان على سبيل الاختيار والتذكير، ومنهم من أراد إحضار الكتف والدواة للكتابة.
2- ليس بمقدور أي كائن بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخيل ما دار في تلك اللحظة تخيلاً واضحاً، مثل أولئك الذين شهدوا تلك الحادثة، ونظروا إلى معاناة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت، خاصة وأنهم لم تمر عليهم حالة مشابهة من قبل بالنبي صلى الله عليه وسلم فاختلفت آراؤهم لعدم سبق علم بها.
3- التمسك بهذه الحادثة على أن فيها مغمزاً ومطعناً في الصحابة رضي الله عنهم شيء جديد لم يسبق إليه أحد من قبل، ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم مرت عليهم الواقعة مرور الكرام وعلموا أنها لم تتضمن أي شبهة تجاه عدالة الصحابة ومقدار حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فهل من تأخر عنهم يكون أعلم وأبصر من أولئك الجمع كلهم الذين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟!
4- أما اختلافهم فثابت، وقد كان سببه اختلاف في فهم قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومراده لا عصيانه. قال القرطبي رحمه الله: وسبب ذلك أن ذلك كله إنما حمل عليه الاجتهاد المسوغ، والقصد الصالح، وكل مجتهد مصيب، أو أحدهما مصيب، والآخر غير مأثوم بل مأجور كما قررناه في الأصول).[6]
ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعنفهم ولا ذمهم بل قال للجميع: (دعوني فالذي أنا فيه خير). وهذا نحو ما جرى لهم يوم الأحزاب حيث قال لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)[7]، فتخوف ناس فوات الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما عنف أحد الفريقين).[8]
5- وأما استدلالهم بقول ابن عباس: (ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب)، فلا حجة له فيه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معناه: (يقتضي أن الحائل كان رزية، وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق، واشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال الشك، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه، ولله الحمد. [9]
ويوضح هذا أن ابن عباس رضي الله عنهما ما قال ذلك إلا بعد ظهور أهل الأهواء والبدع، من الخوارج وغيرهم. وأيضاً فقول ابن عباس هذا قاله اجتهاداً منه، وهو معارض بقول عمر واجتهاده، وقد كان عمر أفقه من ابن عباس قطعاً.[10] بل هو معارض بقول عمر، وطائفة من الصحابة معه، كما جاء في الحديث: (فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك).
ويعضد هذا القول موافقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بعد ذلك وتركه كتابة الكتاب، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لو أراد أن يكتب الكتاب ما استطاع أحد أن يمنعه، وقد ثبت أنه عاش بعد ذلك أياماً باتفاق المسلمين فلم يكتب شيئاً.
6- وأما القول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد بذلك الكتاب أن ينص على خلافة علي رضي الله عنه فمردود من وجوه.
فالإمامية يقولون: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نص على خلافة علي، ونصَّبه وصياً من بعده بأمر الله له قبل حادثة الكتاب. وقد نقل إجماعهم على هذه العقيدة المفيد حيث قال: (واتفقت الإمامية على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استخلف أمير المؤمنين عليه السلام في حياته، ونص عليه بالإمامة بعد وفاته، وأن من دفع ذلك دفع فرضاً من الدين).[11]
ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس، من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون: إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب).[12]
فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أراد من ذلك الكتاب النَّصَ على خلافة علي في ذلك الوقت المتأخر من حياته، دل هذا على عدم نصه عليها قبل ذلك، إذ لا معنى للنص عليها مرتين، وإذا ثبت باتفاق المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات ولم يكتب ذلك الكتاب، بطلت دعوى الوصية من أصلها.
7- وإذا تقرر هذا: فليعلم أن العلماء اختلفوا في مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك الكتاب، فذهب بعضهم إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يكتب كتاباً ينص فيه على الأحكام ليرتفع.[13]
وقيل: إن مراده صلى الله عليه وآله وسلم من الكتاب: بيان ما يرجعون إليه عند وقوع الفتن.[14]
وقيل: إن المراد بيان كيفية تدبير الملك، وهو إخراج المشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفد بنحو ما كان يجيزهم، وتجهيز جيش أسامة.[15]
والذي عليه أكثر العلماء المحققين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن ينص على استخلاف أبي بكر رضي الله عنه ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى.[16]
وقد استدل من قال بهذا القول بما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ادعي لي أبا بكر وأخاك، حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر).[17]
8- لم يثبت أن عمر رضي الله عنه قال: إنه يهجر، وإنما قالها بعض من حضر الحادثة من غير أن تعين الروايات الواردة في الصحيحين وإنما الثابت فيها (فقالوا: ما شأنه أهجر)، هكذا بصيغة الجمع دون الإفراد. ولهذا أنكر بعض العلماء أن تكون هذه اللفظة من كلام عمر.
قال ابن حجر رحمه الله: (ويظهر لي أن قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع، قد يشتغل به عن تحرير ما يريد).[18]
ثم أن هذه اللفظة لا مطعن فيها على عمر إن ثبتت عنه، ولا الصحابة. وذلك من عدة وجوه:
الأول: أن الثابت الصحيح من هذه اللفظة أنها وردت بصيغة الاستفهام هكذا (أهجر؟) وهذا بخلاف ما جاء في بعض الروايات بلفظ: (هجر، ويهجر) وتمسك به الطاعنون فإنه مرجوح على ما حقق ذلك المحدثون[19]، فقد نصوا على أن الاستفهام هنا جاء على سبيل الإنكار على من قال: (لا تكتبوا).[20]
الثاني: أنه على فرض صحة رواية (هجر) من غير استفهام، فلا مطعن فيها على قائلها، لأن الهجر في اللغة يأتي على قسمين: قسم لا نزاع في عروضه للأنبياء، وهو عدم تبيين الكلام لبحّة الصوت، وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان، كما في الحميات الحارة، وقسم آخر: وهو جريان الكلام غير المنتظم، أو المخالف للمقصود على اللسان لعارض بسبب الحميات المحرقة في الأكثر. وهذا القسم محل اختلاف بين العلماء في عروضه للأنبياء، فلعل القائل هنا أراد القسم الأول، وهو أنا لم نفهم كلامه بسبب ضعف ناطقته، ويدل على هذا قوله بعد ذلك: «استفهموه».[21]
وقد ثبت وصف الهجر فى كتب الامامية على أئمتهم، ومن ذلك عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام، قال: حضر علي بن الحسين عليهما السلام الموت، فقال: يا محمد، أي ليلة هذه ؟ قال: ليلة كذا وكذا. قال: وكم مضى من الشهر ؟ قال: كذا وكذا. قال: وكم بقي ؟ قال: كذا وكذا. قال: إنها الليلة التي وعدتها.
قال: ودعا بوضوء فقال إن فيه لفأرة. فقال بعض القوم: إنه ليهجر. فقال: هاتوا المصباح فنظروا فإذا فيه فأر.[22]
بل روى الصدوق وهو من كبار علماء الشيعة: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله، فدخل بلال وهو يقول: الصلاة رحمك الله، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وصلى بالناس، وخفف الصلاة. ثم قال: ادعوا لي علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، فجاءا فوضع صلى الله عليه وآله يده على عاتق علي عليه السلام، والأخرى على أسامة، ثم قال: انطلقا بي إلى فاطمة. فجاءا به حتى وضع رأسه في حجرها، فإذا الحسن والحسين عليهما السلام يبكيان ويصطرخان وهما يقولان: أنفسنا لنفسك الفداء، ووجوهنا لوجهك الوقاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من هذان يا علي ؟ قال: هذان ابناك الحسن والحسين. فعانقهما وقبلهما، وكان الحسن عليه السلام أشد بكاء، فقال له: كف يا حسن، فقد شققت على رسول الله.[23]
الثالث: أنه يحتمل أن تكون هذه اللفظة صدرت عن قائلها عن دَهَشٍ وحَيْرةٍ أصابته في ذلك المقام العظيم، والمصاب الجسيم، كما قد أصاب عمر وغيره عند موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.[24]
الرابع: أن هذه اللفظة صدرت بحضور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبارأصحابه، فلم ينكروا على قائلها، ولم يؤثموه، فدل على أنه معذور على كل حال.
9- وأما الادعاء من معارضة عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (عندكم كتاب الله، حسبنا كتاب الله) وأنه لم يمتثل أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما أراد من كتابة الكتاب: فالرد عليه:
الوجه الأول: أنه ظهر لعمر رضي الله عنه ومن كان على رأيه من الصحابة، أن أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بكتابة الكتاب ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح.[25] كما حملوا قوله عليه السلام: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة". والذي يدل على أن أمره كان للندب عدم إنكاره عليه الصلاة والسلام لمن خالف أمره والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر مخالفة الواجب إجماعاً واتفاقاً.
الدليل على ذلك ايضا أنه بقى بعدها اربعة ايام دون أن يكتب كما نص على ذلك الإمام البخاري ولو كان أمره واجباً والله أمره بالكتابة لما توانى لحظة عن الكتابة ولعاد إلى الطلب مراراً، وهو المأمور بتبليغ ما أمر به.
وهذا موافق لما فهمه على رضى الله عنه في صلح الحديبية عندما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحي كلمة رسول الله فلم يفعل ذلك رضى الله عنه لحمله "على تقديم الأدب على الامتثال" كما ذكر ذلك علماء أهل السنة.
وهذه هى الفقرة التى وردت فى كتب أهل السنة والشيعة: عندما رفض المشركون كتابة "محمد رسول الله": ( فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله؛ لو كنت رسولاً لم نقاتلك. فقال لعلي: "امحه". فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه. فمحاه رسول الله بيده …). وفي كتب الشيعة مثل ذلك: ( امح يا علي واكتب محمد بن عبد الله. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أمحو اسمك من النبوة أبداً فمحاه رسول الله بيده). وهذه رواية: فقال سهيل: اكتب اسمه يمضي الشرط، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ويلك يا سهيل كف عن عنادك، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: " امحها يا علي ": فقال يا رسول الله إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة، قال له: " فضع يدي عليها " فمحاها رسول الله صلى الله عليه وآله بيده.
ثم إنه قد ثبت بعد هذا صحة اجتهاد عمر رضي الله عنه وذلك بترك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كتابة الكتاب، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم، لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف. ولهذا عد هذا من موافقات عمر.[26]
ونسأل الشيعة: هل هذا الكتاب من التبليغ الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بحيث أنه يجب عليه أن يبلغه، أم لا؟ فإن قالوا: نعم هو من الواجب عليه تبليغه ولم يبلِّغه، فقد كذَّبوا بقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) الذي نزل بالإجماع قبل أكثر من ثمانين يوماً من رزية الخميس، إذاً فالكتاب قطعاً ليس فيه إضافة واجب في الدين، ثم أن قولهم هذا فيه طعن في رسول الله صلى الله عليه وآله.
الوجه الثاني: أن قول عمر رضي الله عنه: (حسبنا كتاب الله) رد على من نازعه لا على أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم[27]، وهذا ظاهر من قوله: (عندكم كتاب الله) فإن المخاطب جمع وهم المخالفون لعمر صلى الله عليه وآله وسلم في رأيه.
الوجه الثالث: أن عمر رضي الله عنه قد رأى أن الأولى ترك كتابة الكتاب -بعد أن تقرر عنده أن الأمر به ليس على الوجوب- وذلك لمصلحة شرعية راجحة للعلماء في توجيهها أقوال. فقيل:
شفقته على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يلحقه من كتابة الكتاب مع شدة المرض، ويشهد لهذا قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غلبه الوجع) فكره أن يتكلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يشق ويثقل عليه) مع استحضاره قوله تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38]، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ... [النحل: 89].
ولمن فهم وطعن من الشيعة في عمر رضي الله عنه بأنه يكتفي بالقرآن دون السنة، فنقول روى عن على بن ابى طالب رضى الله عنه في نهج البلاغه قوله "وكفى بالكتاب حجيجا وخصيما" فهل يطبق الشيعة على علي رضي الله عنه نفس الحكم الذي طبقوه على عمر عندما قال حسبنا كتاب الله؟
وقيل: إنه خشى تطرق المنافقين، ومن في قلبه مرض، لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة، وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل.[28] ولا يبعد أن يكون عمر رضي الله عنه لاحظ هذه الأمور كلها، أوكان لاجتهاده وجوه أخرى لم يطلع عليها العلماء، كما خفيت قبل ذلك على من كان خالفه من الصحابة، ووافقه عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتركه كتابة الكتاب، ولهذا عد العلماء هذه الحادثة من دلائل فقهه ودقة نظره.
الوجه الرابع: أن عمر رضي الله عنه كان مجتهداً في موقفه من كتابة الكتاب، والمجتهد في الدين معذور على كل حال، بل مأجور لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)[29]، فكيف وقد كان اجتهاد عمر بحضور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يؤثمه، ولم يذمه به، بل وافقه على ما أراد من ترك كتابة الكتاب.
10- وأما القول: إن الأكثرية الساحقة كانت على قول عمر، ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدم جدوى كتابة الكتاب، لأنه علم بأنهم لن يمتثلوه بعد موته.
فجوابه: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مأمور بالتبليغ سواء استجاب الناس أم لم يستجيبوا، قال تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)... [الشورى: 48]، وقال تعالى: (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) [النحل: 82]، وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة -67]، وقال تعالى ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) [الاحزاب - 39].
فلو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر بكتابة الكتاب، ما كان ليتركه لعدم استجابة أصحابه، كما أنه لم يترك الدعوة في بداية عهدها لمعارضة قومه وشدة أذيتهم له، بل بلَّغ ما أُمر به، وما ثناه ذلك عن دعوته، حتى هلك من هلك عن بينة، وحيا من حيي عن بينة. فظهر بهذا أن كتابة الكتاب لم تكن واجبة عليه، وإلا ما تركها.[30]
11- إن علياً رضي الله عنه كان حاضراً في هذه الحادثة؟ فلماذا لم يكتب؟ لماذا لم يذهب ويأت بالدواة والقلم ويكتب؟ وهل كان علي مع الذين منعوا أو مع الذين لم يمنعوا؟!.
وقد يقول قائل إن أول من عصى رسول الله صلى الله عليه وآله هو علي بن أبي طالب نفسه كما تشهد بذلك الأحاديث الصحيحة، فالمأمور بالكتابة كان علي بن أبي طالب نفسه! فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن علي رضي الله عنه قال: أمرني النبي صلى الله عليه وآله أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضل أمته من بعده، قال: فخشيت أن تفوتني نفسه قال قلت: إني أحفظ وأعي، قال: أوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم[31] فالذي أُمِر بالكتابة إذاً هو علي بن أبي طالب فهل يجوز لنا أن نطعن فيه لأنه عصى أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
وجاء في كتب الشيعة أيضاً ما يدل على وجوده رضي الله عنه يوم الرزية، حيث ذكر المفيد:.. فأفاق عليه وآله السلام فنظر إليهم، ثم قال: أتوني بدواة وكتف، أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا، ثم أغمي عليه، فقام بعض من حضر يلتمس دواة وكتفا فقال له عمر: ارجع، فإنه يهجر ، فرجع. وندم من حضره على ما كان منهم من التضجيع في إحضار الدواة والكتف، فتلاوموا بينهم فقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد أشفقنا من خلاف رسول الله. فلما أفاق صلى الله عليه وآله قال بعضهم: ألا نأتيك بكتف يا رسول الله ودواة ؟ فقال: أبعد الذي قلتم ! ! لا، ولكنني أوصيكم بأهل بيتي خيرا ثم أعرض بوجهه عن القوم فنهضوا، وبقي عنده
العباس والفضل وعلي بن أبي طالب وأهل بيته خاصة.[32]
ولكننا نقول: لم يستجِب الصحابة وعلى رأسهم علي رضي الله عنهم اجمعين لأمر النبي شفقةً عليه من وجعه الذي ألمَّ به بصريح حديث الرزية: [اشتدَّ برسول الله وجعه فقال... ] وهذا من حبهم له صلى الله عليه وآله وسلم.
ولوجرينا على درب الطعن والتفتيش عن سراب الشبه، فماذا سيكون ردنا لوقال لنا أحد النواصب: إن علي بن أبي طالب هوسبب تلك المشاكل؛ لأنه كان في كثير من الأوقات يعارض النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمتثل أمره، مثلما حدث منه في صلح الحديبية في عدم مسح اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم حلق رأسه ونحر هديه كغيره من الصحابة، وعدم قبوله بالاستخلاف بالمدينة في غزوة تبوك. بل شارك في رفض أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت عندما طلب منه ومن غيره أن يحضروا له الكتف والدواة حتى لا يضل المسلمون، فلم يستجب لذلك حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، بل غيّر أحكام الشريعة الإسلامية في الحكم على الغلاة فعاقبهم بالإحراق بدلاً من القصاص الشرعي.
12- ليس هناك من دليل صريح يدل على ارتفاع أصواتهم على صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولوصدر هذا منهم لنزل الوحي بالتوبيخ واللوم من الله، خاصة وأن سورة الحجرات قد تم فيها تفصيل الأدب من حيث كيفية الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم. والصحابة لم يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم بل رفعوا أصواتهم على بعضهم بسبب اختلافهم في الاستفسار وفي المقصود من طلب النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة لهم خاصة وأنه صلى الله عليه وسلم أمي لا يعرف الكتابة، فلما طال نقاشهم فيما بينهم، نهرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الخلاف فقط , ولوكان هناك أمر يتجاوز هذا الحد لنزل بهم أمر من الله سبحانه يجتث الخطأ من أساسه.
[1] رواه البخاري 4432
[2] صحيح مسلم برقم 1637
[3] رواه البخاري برقم 4431، ومسلم برقم 1637
[4] المستدرك، للحاكم، 3/477
[5] مسند أبي يعلى، ج ٤، أبو يعلى الموصلي، ص ٢٩٨
[6] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي 4/559
[7] رواه البخاري برقم 946، ومسلم برقم 1770
[8] المفهم 4/559
[9] منهاج السنة 6/25. 9
[10] انظر: فتح البارى 8/134
[11] أوائل المقالات، 44
[12] منهاج السنة 6/25
[13] شرح صحيح مسلم للنووي 11/90، وفتح الباري لابن حجر 1/209
[14] المفهم 4/558
[15] مختصر التحفة الإثني عشرية، 251
[16] شرح صحيح مسلم للنووي 11/90، المفهم 4/558، منهاج السنة 6/23، 24، 316، الصارم الحديد في عنق صاحب سلاسل الحديد 2/48، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/890
[17] رواه مسلم برقم 2387، وروى البخاري، مع اختلاف في اللفظ، برقم 7217
[18] فتح الباري 8/133
[19] الشفا 2/886، المفهم 4/559، شرح صحيح مسلم 11/93، فتح الباري 8/133
[20] المفهم 4/559
[21] مختصر التحفة الإثني عشرية، 250
[22] دلائل الامامة، محمد بن جرير الطبري ( الشيعي )، ص ٢٠٨
[23] الأمالي،، لابن بابويه القمي، الملقب بالصدوق، ص ٧٣٥
[24] المفهم 4/560
[25] الشفا 2/887، والمفهم 2/559، وشرح صحيح مسلم 11/91، وفتح الباري 1/209
[26] فتح الباري لابن حجر 1/209
[27] نص عليه النووي في شرح صحيح مسلم 11/93
[28] الشفا 2/889، وشرح صحيح مسلم للنووي 2/92
[29] رواه البخاري برقم 7352، ومسلم برقم 1716
[30] منهاج السنة 6/315، 316، وفتح الباري 1/209
[31] مسند أحمد، 1/693
[32] الإرشاد، للمفيد، 1/184