قولهم بأن النزول يقتضي الحركة والإنتقال وهذا من خصائص الأجسام
والجواب من عدة أوجه :
الأول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق ,وأنصح الخلق للخلق, وأفصح الخلق في بيان الحق, وأحرص الخلق في هداية الخلق, فما بينه من أسماء الله وصفاته هو الغاية في هذا الباب" فإن كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس ,وأجهلهم وأسوئهم أدبا, بل يجب تأديبه وتعزيره, ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظنون الباطلة, والإعتقادات الفاسدة"(42)
ولفظ(الحركة) لم يثبت لا في الكتاب ولا في السنة وبالتالي هو لفظ مجمل يجب الإستفصال في معناه في إن كان حق قبلناه وإن كان باطلا رددناه .
فإن كان قصدكم بالحركة أن الله إستوى العرش وكلم موسى وينزل كل ليلة في الثلث الأخير وأنه خلق السموات وخلق الخلق وأنه أنزل الله الكتب وأنه يجيء يوم القيامة ليحاسب العباد فهذا المعنى حق دل عليه الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة ((واتفق أهل السنة على القول بمقتضى ما دل عليه الكتاب والسنة من ذلك غير خائضين فيه ، ولا محرفين للكلم عن مواضعه، ولا معطلين له عن دلائله . وهذه النصوص في إثبات الفعل ، والمجيء ، والاستواء ، والنزول إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله فالحركة له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولازمها ، وإن كنا لا نعقل كيفية هذه الحركة))(1).
أما إذا كنتم تقصدون بلفظ(الحركة) أن الله يماثل أحد مخلوقاته في شيء من صفاتهم فهذا المعنى باطل ننكره والإمام الدارمي ينكره كذلك .
لكن اللفظ حادث وموقف أهل السنة من الألفاظ الحادثة هو:
-إما نفيها تماما والوقوف على الألفاظ الواردة فقط
-إما إثبات المعنى الصحيح منها وترك المعنى الخاطئ وإبقاء اللفظ(وهذه طريقة الدارمي)
-إما إثبات المعنى الصحيح والوقف عن اللفظ وعدم القول به( وهذه طريقة بعض السلف وطريقة ابن تيمية رحمه الله).
الثاني : إن الإنتقال إن لزم من إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ,فلا بد من إثباته ضرورة ,إذ لا زم الحق حق, وإن لم يكن ذلك لازم له, فأنتم معترضون على الرسول صلى الله عليه وسلم كاذبون عليه, متقدمون بين يديه, فبطل إلزامك إن صح.
قال ابن رجب رحمه الله :(لا نسلم لزومه, فإن نزوله ليس كنزول المخلوقين)(43)
وقال الحافظ الذهبي (( الصواب في حديث النزول ونحوه ما قاله مالك وأقرانه يُمر كما جاء بلا كيفية , و لازم الحق حق , و نفي الإنتقال و إثباته عبارة محدثة , فإن ثبتت في الأثر رويناها و نطقنا بها , و ان نفيت في الأثر نطقنا بالنفي , و إلا لزمنا السكوت و آمنا بما ثبت في الكتاب و السنة على مقتضاه " اهـ(44)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( والأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص. فالألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة في الإثبات تثبت ,والتي جاءت في النفي تنفى .والألفاظ المجملة كلفظ(الحركة) و(النزول) و(الإنتقال) يجب أن يقال فيها :أنه منزه عن مماثلة المخلوقين من كل وجه, لا يماثل المخلوق لا في نزول, ولا في حركة ولا انتقال ولا زوال ولا غير ذلك(45).وهذه سبيل من اعتصم بالعروة الوثقى(46))).
الثالث : يقال لهم :رب العالمين إما أن يقبل الاتصاف بالإئتيان والمجيء والنزول وجنس الحركة, وإما أن لا يقبله, فإن لم يقبله كانت الأجسام التي تقبل الحركة ولم تتحرك أكمل منه, وإن قبل ذلك ولم يفعله كان ما يتحرك أكمل منه, فإن الحركة كمال للمتحرك, ومعلوم أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه التحرك ,وما يقبل الحركة أكمل ممن لا يقبها(47)
قال ابن القيم رحمه الله : ((ومن نزهه عن نزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا, ودنوه عشية عرفة من أهل الموقف, ومجيئه يوم القيامة للقضاء بين عباده فرار من تشبيهه بالأجسام, فقد شبهه بالجماد الذي لا يتصرف ولا يفعل ولا يجيئ ولا يأتي ولا ينزل)) (48).
الرابع :قولكم أن هذه الأمور كالمجيئ والإتيان والنزول من خصائص أجسام قول باطل قطعا لأن الأعراض كذلك توصف بذلك فيقال :جاء البرد ,جاء الحر, جاء الصيف ,وجاءت الحمى...فهل هذه أجسام عندكم؟ وبالتالي قولكم هذا من الهذيان والهراء والحمد لله .
الخامس : أن يقال :المجيء والإتيان والصعود والنزول توصف بها روح الإنسان التي تفارقه بالموت, وتسمى النفس, وتوصف به الملائكة .وليس نزول الروح وصعودها من جنس نزول البدن وصعوده, فإن روح المؤمن تصعد إلى فوق السموات ثم تهبط إلى الأرض فيما بين قبضها ووضع الميت في قبره .وهذا زمن يسير لا يصعد البدن إلى فوق السماوات ثم ينزل إلى الأرض في مثل هذا الزمن.
وإذا كانت الروح تعرج إلى السماء مع أنها في البدن، علم أنه ليس عروجها من جنس عروج البدن الذي يمتنع هذا فيه. وعروج الملائكة ونزولها من جنس عروج الروح ونزولها، لا من جنس عروج البدن ونزوله. وصعود الرب عز وجل فوق هذا كله وأجل من هذا كله؛ فإنه تعالى أبعد عن مماثلة كل مخلوق من مماثلة مخلوق لمخلوق.
فتدبر أيها القارئ اللبيب.
جمال البليدي
المصدر: موقع الألوكة ..