اعلم رحمك الله أنه ما من صاحب بدعة وهوى إلا وينتصر لباطله بشبهات وإعتراضات واهيات و إلزامات ,والنصوص الدالة على علو الله تعالى على خلقه ((لم يعاضرها قط صريح معقول,فضلا على أن يكون مقدما عليها,وإنما الذي يعارضها((جهليا� �))’و((ضلالات)),و((� �بهات مكذوبات)),و((أوه ام فاسدات)),وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسماها,بل هي من جنس تسمية الأوثان((آلهة)) و((أربابا)),وتسم ية ((مسيلمة الكذاب)) وأمثاله((أنبياء)) : ((إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى )) النجم23(1)
,مبناها على معاني متشابهة وألفاظ مجملة,فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سوفسطائية,لا براهين عقلية.
قال ابن القيم رحمه الله :
فأدلة الإثبات حقا لا يقوم ***لها الجبال وسائر الأكوان
تنزيل رب العالمين ووحيه***مع فطرة الرحمن والبرهان
أنى يعارضها كناسة هذه***الأذهان بالشبهات والهذيان
وجعاجع وفراقع ما تحتها***إلا السراب لوارد ظمآن(2)
وإن المشتغلين بعلم الكلام قد جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها,أصول دينهم –وإن سموها((أصول العلم والدين))فهي(ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول))-ومعتقدهم في رب العالمين هي المحكمة,وجعلوا قول الله ورسوله هو المتشابه الذي لا يستفاد منه علم ولا يقين,ثم ردوا تشابه الوحي إلى محكم كلامهم وقواعدهم.
وهذا كما أحدثوه من الأصول التي نفوا بها صفات الرب جلا جلاله ,ونعوت كماله,ونفوا بها كلامه,وتكلميه,وع لو على عرشه,محكما,وجع� �وا وجعلوا النصوص الدالة على خلاف تلك القواعد والأصول متشابهة يقضي بتلك القواعد عليها وترد النصوص إليها .
وأما أهل العلم والإيمان فطريقهم عكس هذه الطريقة من كل وجه,يجعلون كلام الله ورسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه,ويرد ما يتنازع الناس فيه إليه,فما وافقه كان حقا,وما خالفه كان باطلا,وإذا ورد عليهم لفظ مشتبه ليس في القرآن ولا في السنة ]كالحيز والجهة والمكان والجسم والحركة[ لم يتلقوه بالقبول,ولم يردوه بالإنكار حتى يستفصلوا قائله عن مراده,فإن كان حقا موافقا للعقل والنقل قبلوه,وإن كان باطلا مخالفا للعقل والنقل ردوه,ونصوص الوحي عندهم أعظم وأكبر في صدورهم من أن يقدموا عليها ألفاظ مجملة ,لها معاني مشتبهة (3).
وهذا أصل مهم ,من تصوره وتدبره انتفع به غاية النفع وتخلص به من ضلال المتفلسفين,وحير� � المتكلمين,((وعرف حقيقة الأقوال الباطلة ,وما يلزمها من اللوازم ,وعرف الحق الذي دل عليه صحيح المنقول,وصريح المعقول لا سيما في هذه الأصول التي هي أصول كل الأصول,و الضالون فيها لما ضيعوا الأصول حرموا الوصول))(4) .والأصول اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم(5).كما قيل :
أيها المتغذي لتطلب علما***كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح حكما***ثم أغفلت أصل الأصول(6).
الرد المجمل على جميع الشبهات والاعتراضات :
قد تبين مما تقدم أن شبهات المنكرين للعلو أو غيرها من الصفات الثابتة في الكتاب والسنة هي عبارة عن ألفاظ مجملة ولوازم باطلة ردو بها الآيات والأحاديث الصريحة ,فالرد عليهم من وجهين :
الوجه الأول: إجمالي وهو أن يقال: إن الله أخبرنا بأنه مستو على عرشه، عال على خلقه، ونحن نصدقه فيما قال، ونؤمن بما أخبر، ونسكت عما وراء ذلك، ولا نخوض في تلك اللوازم المدعاة ولا نتكلم فيها، فإنها من جملة المسكوت عنه في الشرع؛ إذ لم يرد في الشرع نفي أو إثبات أن يكون الله جسماً، أو محدوداً، أو محصوراً، فالسكوت فيه سلامة للمرء في دينه واعتقاده .
الوجه الثاني: تفصيلي وهو بأن نسأل عن تلك اللوازم، فنقول إن أردتم بالجسم ما هو قائم بذاته مستغن عن خلقه فذلك ما نثبته ونؤيده ونلتزم به مع عدم تسميتنا له جسماً لكونه لم يرد في الشرع وصفه بذلك، وإن أردتم بالجسم ما زعمتم أن كل طرف فيه محتاج للطرف الآخر فذلك مما نكره وننفيه، ولكننا لا نعتقد أن نفيه يلزم منه نفي العلو . بل نرى أن قولكم: أنه من لوازم القول بالعلو ما هو إلا بسبب تشبيهكم أولاً فأنتم شبهتم استواء الله على عرشه باستواء المخلوقين، فقلتم: كل مستو فهو جسم، والله ليس بجسم، فهو ليس بمستو والمقدمة باطلة وما ترتب عليها باطل، فالله ليس كمثله شيء، واستواؤه ليس كاستواء المخلوقين .