آخر تحديث للموقع :

الجمعة 14 ربيع الأول 1445هـ الموافق:29 سبتمبر 2023م 09:09:39 بتوقيت مكة

جديد الموقع

تاريخ اليعقُوبي ..
الكاتب : فيصل نور ..

تاريخ اليعقُوبي

     كتاب لأحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح الكاتب العباسي، المتوفي سنة 292 هـ على الأرجح. وقد ذكرنا ترجمته في مادة "اليعقوبي".
 
طبع أول مرة في ليدن سنة 1860م، ثم في النجف (مطبعة الغري) في ثلاثة أجزاء في (717) صفحة.
 
جعل اليعقوبي كتابه في جزئين، الأول لتاريخ الإمم القديمة، والآخر لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء من بعده حتى أيام المعتمد على الله العباسي (حوادث سنة 259هـ - 872م)، أي قبل وفاته ب 33 سنة تقريباً.
 
والصفحات الأولى من الجزء الأول مفقودة في جميع النسخ المخطوطة والمطبوعة، الأمر الذي يضع غموض حول مصادر هذا الجزء، رغم إمكانية الوقوف على بعضها من خلال النصوص التي أوردها من التوارة والأناجيل والمزامير وكتب ابقراط وفيثاغورس وبطليموس.
 
أما الجزء الآخر والمتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء من بعده، يظهر فيه نزعة التشيع عند اليعقوبي من خلال حذفه للأسانيد وإختياره ما يوافق هواه من روايات.
 
وقد فصل الدكتور محمد السلمي منهج اليعقوبي في تاريخه قائلاً:
عرض اليعقوبيُّ تاريخ الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشيعة الإمامية، فهو لا يعترفُ بالخلافة إلا لعليّ بن أبي طالب وأبنائه، حسب تسلسل الأئمة عند الشّيعة، ويُسمّي علياً بالوصي.

وعندما أرّخ لخلافة أبي بكر،وعمر،وعثمان،- رضي اللهُ عنهُم - لم يُضف عليهم لقب الخلافة، وإنما قال: تولّى الأمر فلان..، ثم لم يترك واحداً منهم دُون أن يطعن فيه، وكذلك كبار الصّحابة، فقد ذكر عن عائشة- رضي اللهُ عنهُا- أخباراً سيئةً، وكذلك عن خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان.

وعرض خبر السّقيفة عرضاً مُشيناً ادّعى فيه أنه حصلت مؤامرة على سلب الخلافة من عليّ بن أبي طالب- رضي اللهُ عنهُ- الذي هُو الوصيُّ في نظره، وبلغ به الغُلو إلى أن ذكر أنّ قول الله تعالى: (اليوم أكملتُ لكُم دينكُم وأتممتُ عليكُم نعمتي ورضيتُ لكُمُ الإسلام دينًا). سورة المائدة. قد نزلت على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه يوم النّفر".

وطريقتُهُ في سياق الاتهامات هي طريقةُ قومه من أهل التشيع والرّفض، وهي إما اختلاق الخبر بالكلية، أو التزيد في الخبر، والإضافة عليه، أو عرضه في غير سياقه ومحله حتّى يتحرّف معناه.

ومن الملاحظ أنه عندما ذكر الخلفاء الأُمويين وصفهم بالملوك، وعندما ذكر خلفاء بني العبّاس وصفهم بالخلفاء، كما وصف دولتهم في كتابه البلدان باسم الدولة المباركة؛ مما يعكس نفاقهُ وتستره وراء شعار التقية،وهذا الكتابُ يُمثّلُ الانحراف والتشويه الحاصل في كتابة التّاريخ الإسلاميّ، وهو مرجع لكثير من المستشرقين والمستغربين الذين طعنُوا في التّاريخ الإسلاميّ وسيرة رجاله. مع أنه لا قيمة كبيرة له من الناحية العلمية إذ يغلب على القسم الأول: القصص، والأساطير، والخرافات. والقسم الثاني: كُتب من زاوية نظر طائفية حزبية، كما أنه يفتقدُ من النّاحية المنهجية لأبسط قواعد التّوثيق العلميّ[1].
 
نصوص من تاريخ اليعقوبي:
توفي أبو طالب بعد خديجة بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة، وقيل بل تسعون سنة. ولما قيل لرسول الله إن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات ثم قال: يا عم ربيت صغيرا وكفلت يتيما ونصرت كبيرا، فجزاك الله عني خيرا، ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم وجزيت خيرا، وقال: اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشد جزعا، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب. وروي عنه أنه قال: إن الله، عز وجل، وعدني في أربعة: في أبي وأمي وعمي وأخ كان لي في الجاهلية[2].
 
لما قدم المدينة أقام أياما وعقد لأسامة بن زيد بن حارثة على جلة المهاجرين والأنصار، وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه من أرض الشام... وكان في الجيش أبو بكر وعمر[3].
 
(تحت عنوان خبر سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر) قال: وقام المنذر بن أرقم فقال: ما ندفع فضل من ذكرت، وإن فيهم لرجلا لو طلب هذا الامر لم ينازعه فيه أحد، يعني علي بن أبي طالب. فوثب بشير بن سعد من الخزرج، فكان أول من بايعه من الأنصار، وأسيد بن حضير الخزرجي، وبايع الناس حتى جعل الرجل يطفر وسادة سعد بن عبادة، وحتى وطئوا سعدا. وقال عمر: اقتلوا سعدا، قتل الله سعدا. وجاء البراء بن عازب، فضرب الباب على بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم، بويع أبو بكر. فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه، ونحن أولى بمحمد. فقال العباس: فعلوها، ورب الكعبة. وكان المهاجرون والأنصار لا يشكون في علي، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، وكان لسان قريش، فقال: يا معشر قريش، إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم، وصاحبنا أولى بها منكم. وقام عتبة بن أبي لهب فقال: ما كنت أحسب أن الامر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
عن أول الناس إيمانا وسابقة، * وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخر الناس عهدا بالنبي، ومن * جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا يمترون به، * وليس في القوم ما فيه من الحسن
فبعث إليه علي فنهاه. وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة، فقال: ما الرأي؟ قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب، فتجعل له في هذا الامر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي، إذا مال معكم، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلا، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله بعث محمدا نبيا وللمؤمنين وليا، فمن عليهم بكونه بين أظهرهم، حتى اختار له ما عنده، فخلى على الناس أمورا ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم مشفقين، فاختاروني عليهم واليا ولأمورهم راعيا، فوليت ذلك، وما أخاف بعون الله وتشديده وهنا، ولا حيرة، ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، وما انفك يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامة المسلمين، يتخذكم لجأ، فتكون حصنه المنيع وخطبه البديع. فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه، وإما صرفتموهم عما مالوا إليه، ولقد جئناك ونحن نريد أن لك في هذا الامر نصيبا يكون لك، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان صاحبك (بياض في الأصل) عنكم، وعلى رسلكم بني هاشم، فإن رسول الله منا ومنكم. فقال عمر بن الخطاب: إي والله وأخرى، إنا لم نأتكم لحاجة إليكم، ولكن كرها أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم. فحمد العباس الله وأثنى عليه وقال: إن الله بعث محمدا كما وصفت نبيا وللمؤمنين وليا، فمن على أمته به، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده، فخلى على المسلمين أمورهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين الحق، لا مائلين بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله فحقا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم، فما تقدمنا في أمرك فرضا، ولا حللنا وسطا، ولا برحنا سخطا، وإن كان هذا الامر إنما وجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنا كارهين. ما أبعد قولك من أنهم طعنوا عليك من قولك إنهم اختاروك ومالوا إليك، وما أبعد تسميتك بخليفة رسول الله من قولك خلى على الناس أمورهم ليختاروا فاختاروك، فأما ما قلت إنك تجعله لي، فإن كان حقا للمؤمنين، فليس لك أن تحكم فيه، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض، وعلى رسلك، فإن رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها. فخرجوا من عنده. وكان فيمن تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب، وقال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الامر عليكم غيركم؟ وقال لعلي بن أبي طالب: امدد يدك أبايعك، وعلي معه قصي، وقال:
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم * ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الامر إلا فيكم وإليكم، * وليس لها إلا أبو حسن علي
أبا حسن، فاشدد بها كف حازم، * فإنك بالامر الذي يرتجى ملي
وإن امرأ يرمي قصي وراءه * عزيز الحمى، والناس من غالب قصي
وكان خالد بن سعيد غائبا، فقدم فأتى عليا فقال: هلم أبايعك، فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك. واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له، فقال لهم: اغدوا على هذا محلقين الرؤوس. فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر. وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه، وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولا عجن إلى الله ! فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياما. ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلا بعد ستة أشهر وقيل أربعين يوما[4].
 
وقال: سن عمر بن الخطاب قيام شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان، وأمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يصليا بالناس، فقيل له في ذلك: إن رسول الله لم يفعله، وإن أبا بكر لم يفعله. فقال: إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة[5].
 
وقال في عمر رضي الله عنه وقصة قصة الشورى: وأمر صهيبا أن يصلي بالناس حتى يتراضوا من الستة بواحد، واستعمل أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري، وقال: إن رضي أربعة وخالف اثنان، فاضرب عنق الاثنين، وإن رضي ثلاثة وخالف ثلاثة، فاضرب أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن، وإن جازت الثلاثة الأيام ولم يتراضوا بأحد، فاضرب أعناقهم جميعا[6].
 
وقال: وروى بعضهم أن عثمان خرج من الليلة التي بويع له في يومها لصلاة العشاء الآخرة، وبين يديه شمعة، فلقيه المقداد بن عمرو، فقال: ما هذا البدعة ! ومال قوم مع علي بن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان. فروى بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله، فرأيت رجلا جاثيا على ركبتيه يتلهف تلهف من كأن الدنيا كانت له فسلبها، وهو يقول: واعجبا لقريش، ودفعهم هذا الامر على أهل بيت نبيهم، وفيهم أول المؤمنين، وابن عم رسول الله أعلم الناس وأفقههم في دين الله، وأعظمهم غناء في الاسلام، وأبصرهم بالطريق، وأهداهم للصراط المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحا للأمة ولا صوابا في المذهب، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعدا وسحقا للقوم الظالمين. فدنوت منه فقلت: من أنت يرحمك الله، ومن هذا الرجل؟ فقال: أنا المقداد بن عمرو، وهذا الرجل علي بن أبي طالب. قال فقلت: ألا تقوم بهذا الامر فأعينك عليه؟ فقال: يا ابن أخي ! إن هذا الامر لا يجري فيه الرجل ولا الرجلان. ثم خرجت، فلقيت أبا ذر، فذكرت له ذلك، فقال: صدق أخي المقداد[7].
 
وقال: اعتل ابن مسعود، فأتاه عثمان يعوده، فقال له: ما كلام بلغني عنك؟ قال: ذكرت الذي فعلته بي، انك أمرت بي فوطئ جوفي، فلم أعقل صلاة الظهر، ولا العصر، ومنعتني عطائي. قال: فإني أقيدك من نفسي فافعل بي مثل الذي فعل بك ! قال: ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء. قال: فهذا عطاؤك، فخذه. قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا غني عنه؟ لا حاجة لي به، فانصرف. فأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان حتى توفي، وصلى عليه عمار بن ياسر، وكان عثمان غائبا فستر أمره. فلما انصرف رأى عثمان القبر، فقال: قبر من هذا؟ فقيل: قبر عبد الله بن مسعود. قال: فكيف دفن قبل أن أعلم؟ فقالوا: ولي أمره عمار بن ياسر، وذكر أنه أوصى ألا يخبر به، ولم يلبث إلا يسيرا حتى مات المقداد، فصلى عليه عمار، وكان أوصى إليه، ولم يؤذن عثمان به، فاشتد غضب عثمان على عمار، وقال: ويلي على ابن السوداء ! أما لقد كنت به عليما. وبلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مسجد رسول الله، ويجتمع إليه الناس، فيحدث بما فيه الطعن عليه، وأنه وقف بباب المسجد فقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي، إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم، محمد الصفوة من نوح، فالأول من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمد. إنه شرف شريفهم، واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجر الزيتونية أضاء زيتها، وبورك زبدها، ومحمد وارث علم آدم وما فضل به النبيون، وعلي بن أبي طالب وصي محمد، ووارث علمه. أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها ! أما لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه، فأما إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال أمركم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. وبلغ عثمان أيضا أن أبا ذر يقع فيه، ويذكر ما غير وبدل من سنن رسول الله وسنن أبي بكر وعمر، فسيره إلى الشام إلى معاوية، وكان يجلس في المسجد، فيقول كما كان يقول، ويجتمع إليه الناس، حتى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه. وكان يقف على باب دمشق، إذا صلى صلاة الصبح، فيقول: جاءت القطار تحمل النار، لعن الله الآمرين بالمعروف والتاركين له، ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له. وكتب معاوية إلى عثمان: إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر، فكتب إليه: أن أحمله على قتب بغير وطاء، فقدم به إلى المدينة، وقد ذهب لحم فخذيه، فلما دخل إليه وعنده جماعة قال: بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله يقول: إذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا. فقال: نعم ! سمعت رسول الله يقول ذلك. فقال لهم: أسمعتم رسول الله يقول ذلك؟ فبعث إلى علي بن أبي طالب، فأتاه، فقال: يا أبا الحسن أسمعت رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقص عليه الخبر. فقال علي: نعم ! قال: وكيف تشهد؟ قال: لقول رسول الله: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر. فلم يقم بالمدينة إلا أياما حتى أرسل إليه عثمان: والله لتخرجن عنها ! قال: أتخرجني من حرم رسول الله؟ قال: نعم، وأنفك راغم. قال: فإلى مكة؟ قال: لا ! قال: فإلى البصرة قال: لا ! قال: فإلى الكوفة؟ قال: لا ! ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت بها. يا مروان ! أخرجه، ولا تدع أحدا يكلمه، حتى يخرج. فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته، فخرج وعلي والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر ينظرون، فلما رأى أبو ذر عليا قام إليه فقبل يده ثم بكى وقال: إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله فلم أصبر حتى أبكي ! فذهب علي يكلمه فقال له مروان: إن أمير المؤمنين قد نهى أن يكلمه أحد. فرفع علي السوط فضرب وجه ناقة مروان، وقال: تنح، نحاك الله إلى النار ! ثم شيعه، فكلمه بكلام يطول شرحه، وتكلم كل رجل من القوم وانصرفوا، وانصرف مروان إلى عثمان، فجرى بينه وبين علي في هذا بعض الوحشة، وتلاحيا كلاما، فلم يزل أبو ذر بالربذة حتى توفي. ولما حضرته الوفاة قالت له ابنته: إني وحدي في هذا الموضع، وأخاف أن تغلبني عليك السباع. فقال: كلا إنه سيحضرني نفر مؤمنون، فانظري أترين أحدا؟ فقالت: ما أرى أحدا ! قال: ما حضر الوقت، ثم قال: انظري، هل ترين أحدا؟ قالت: نعم أرى ركبا مقبلين، فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله، حولي وجهي إلى القبلة، فإذا حضر القوم فاقرئيهم مني السلام، فإذا فرغوا من أمري، فاذبحي لهم هذه الشاة، وقولي لهم: أقسمت عليكم إن برحتم حتى تأكلوا، ثم قضي عليه، فأتى القوم، فقالت لهم الجارية: هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد توفي، فنزلوا، وكانوا سبعة نفر، فيهم حذيفة بن اليمان، والأشتر، فبكوا بكاء شديدا، وغسلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، ودفنوه. ثم قالت لهم: إنه يقسم عليكم ألا تبرحوا حتى تأكلوا ! فذبحوا الشاة، وأكلوا، ثم حملوا ابنته، حتى صاروا بها إلى المدينة. فلما بلغ عثمان وفاة أبي ذر قال: رحم الله أبا ذر ! قال عمار: نعم ! رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا، فغلظ ذلك على عثمان. وبلغ عثمان عن عمار كلام، فأراد أن يسيره أيضا، فاجتمعت بنو مخزوم إلى علي بن أبي طالب، وسألوه إعانتهم، فقال علي: لا ندع عثمان ورأيه. فجلس عمار في بيته، وبلغ عثمان ما تكلمت به بنو مخزوم، فأمسك عنه[8].
 
وقال: ومر القوم في الليل بماء يقال له: مر الحوأب، فنبحتهم كلابه، فقالت عائشة: ما هذا الماء؟ قال بعضهم: ماء الحوأب. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون ! ردوني ردوني ! هذا الماء الذي قال لي رسول الله: لا تكوني التي تنبحك كلاب الحوأب. فأتاها القوم بأربعين رجلا، فأقسموا بالله أنه ليس بماء الحوأب[9].
 
وقال: ووضع الرأس بين يدي يزيد، فجعل يزيد يقرع ثناياه بالقصب وكان أول صارخة صرخت في المدينة أم سلمة زوج رسول، كان دفع إليها قارورة فيها تربة، وقال لها: إن جبريل أعلمني ان أمتي تقتل الحسين، وأعطاني هذه التربة، وقال لي: إذا صارت دما عبيطا فاعلمي أن الحسين قد قتل، وكانت عندها، فلما حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، فلما رأتها قد صارت دما صاحت: وا حسيناه ! وابن رسول الله ! وتصارخت النساء من كل ناحية، حتى ارتفعت المدينة بالرجة التي ما سمع بمثلها قط[10].
 
وغيرها كثير، ومنها يستشف القاريء عقيدة اليعقوبي، أو ما يفيد في معرفة ميوله. والله اعلم.



[1] راجع: منهج كتابة التاريخ الإسلامي، لمحمد بن صامل السلمي، 1 /516

[2] تاريخ اليعقوبي، 2 /35

[3] المصدر السابق، 2 /113

[4] المصدر السابق، 2 /123

[5] المصدر السابق، 2 /140

[6] المصدر السابق، 2 /160

[7] المصدر السابق، 2 /163

[8] المصدر السابق، 2 /170

[9] المصدر السابق، 2 /181

[10] المصدر السابق، 2 /245

عدد مرات القراءة:
2299
إرسال لصديق طباعة
 
اسمك :  
نص التعليق :